ماذا لو تم إعادة المشهد؟

هنا بداية الأحلام، هنا تتفتق المواهب، باب كبير يستقبل من الأمل الكثير، ممر ممتلئ بالأزهار، جدران رسمت بالألوان ألوان الطيف، هذه هي البداية، بداية كل شيء، دق الجرس وضحكات تعدو في الساحة وقت الفسحة، نعم إنها المدرسة، من منا لا يذكرها خاصة المرحلة الابتدائية، طفل صغير يحمل محفظة على كتفيه وقلبه يعج بالمشاعر الكبيرة، سيبدأ مرحلة جديدة فيها من المسؤولية ما يكبر عمره، أن يستيقظ ويترك فراشه ويجهز نفسه ويغادر محيطه الذي اعتاد عليه، يومه الأول يوم الدخول المدرسي يوم مميز، توالت الأيام وانطفأ وهج البدايات، تعود التلميذ على النمط الجديد الدراسة في القسم والواجبات في المنزل، تعود على الجدران المرسومة أما ما هو مكتوب عليها تمكن من قراءتها بعد محاولات التهجي الكثيرة، واعتاد على مقعده وزملائه، الشيء الوحيد الذي دائما كان غريبا عليه هو بعض السلوكيات التي كان يصادفها، أنا على يقين أنه يوجد أحد ممن يقرأ هذه السطور قد صادف مثلها، يتيه الطفل بين أن يحب الدراسة وبين أن يجبر عليها، فإن أحبها يذهب إليها بقلب ينتظر من يعزز داخله هذا الشعور، وإن أجبر عليها يذهب إليها عله يجد من يحببها لقلبه.

قبل كل شيء، أريد أن أشير لأمر ما، هو أن أفكاري التي سأتشاركها معكم ليس ضربا في أشخاص معينين، ما هي إلا مشاهد طبعت في ذاكرتي بشخصياتها وأحداثها من خلال ما عشته في مقاعد الدراسة. أما الأستاذ المدرس، فكان من الشخصيات الرئيسة في هذه المشاهد، أذكر مشهدا، ذات يوم تأخر فيه الأستاذ عن الحضور حتى ظننا أنه لن يأتي للحصة، بقينا ننتظر في ساحة المدرسة، وكان هنالك أستاذ آخر يلوح بيده لنا بإشارة “تعالوا إلى هنا” لكن نحن التلاميذ لم نفهم أنه كان يقصد أن نذهب عنده ليخفينا عن أنظار مدير المؤسسة. فمن خلال وقوفنا في الساحة في ذلك الوقت والجميع في أقسامهم كان واضحا جدا أن الأستاذ لم يحضر، بعد الانتظار الذي طال قليلا حضر الأستاذ وقدم إلينا عقوبة قبل أن يقدم الدرس، عاقب الفصل كله بحجة أننا رفضنا تلبية طلب زميله، وما ذنبنا نحن؟ حضرنا في موعدنا المحدد أما الأستاذ فتأخر، وكان بعض المدرسين يعاقبون التلاميذ بالعصا على الأرجل، يبدو أنها جريمة شنعاء ارتكبها الصغار لينالوا عقابا بهذا الحجم.

لا أجد عذرا مقنعا لمثل هذه السلوكيات في داخل المدرسة، درسنا مرة في التسويق نظرية وضعها “أبراهام ماسلو” جمع فيها الحاجيات الأساسية للإنسان ورتبها على شكل هرم يسمى “هرم ماسلو”. حيث تناقش النظرية حاجات الإنسان التي دائما ما يبحث عن تحقيقها، وجاءت الرغبة في الشعور بالأمان مباشرة بعد الرغبة الفيسيولوجية للبقاء. فيرى “أبراهام ماسلو” أن الإنسان ما إن تتحقق له الرغبة الأولى حتى يبحث عن تحقيق رغبته الثانية وهي الأمان، أن يشعر أنه في أمان دائما داخل الوسط أو المكان أو اليابسة التي هو عليها، وبعدها يبحث عن الانتماء طبعا الانتماء إلى المكان الذي شعر فيه أنه آمن، تسمى هذه الرغبة في “هرم ماسلو” بالرغبة في الانتماء، ثم رغبته في التقدير وبعدها تأتي مباشرة رغبته في تحقيق ذاته، وأنا أسميها مرحلة الحصاد، ودائما كنت أرى أن هذه النظرية هي فعالة في جميع المجالات، فمثلا إذا ما شعر التلميذ بالأمان في المحيط المدرسي فسينتمي إليه بجميع مكوناته وسيكون المجال الواسع له لتحقيق ذاته.

لو قمنا بإحصاء بسيط لأولئك الكائنات الصغير البريئة التي تتواجد في الفصل، لن نجدهم كلهم يحضون بالاهتمام في وسطهم العائلي، هم أقلية من يصحبهم أولياء أمورهم الى المدرسة ويطبعون على وجناتهم الصغيرة قبلات الحب والفخر، هنالك صغير في ذاك الفصل يا حضرة المدرس يعاني من التفكك الأسري، وزميله هو الآخر نام ليلة البارحة على صوت صراخ والديه، ولربما تلك التلميذة الرقيقة ترتجف من البرد لأن ليس لدى عائلتها ما يكفي من المال لشراء معطف يقيها من هواء الصباح البارد. وقس على ذلك، هؤلاء هم المعاقبون، هم من؟ أطفال يأتي كل واحد منهم من عالمه إلى عالم المدرسة، ليس له أي ذنب لم يختر عائلته ولا ظروفه ولم يستوعب بعد ما له وما عليه، لا يستحق كل هذه القسوة، نعم أتفق أن التلميذ يجب أن يتلقى تعليما وتربية، ولكن هنالك أساليب أفضل وناجحة تقوم على تشجيعه وتعزيز قدراته دون خلق مشاكل نفسية تؤثر في شخصيته وفي اختياراته مستقبلا.

وطالما نتحدث عن المشاهد التي كانت في المدرسة، أذكر المرحلة الثانوية، وكان هنالك أستاذ مادة الرياضيات لا تكاد تراه إلا مبتسما، ببساطة هكذا ابتسامة مرسومة على محياه دون أي عملية رياضية او معادلة معقدة تستدعي أن تحل، جمع بين الوجه البسام والتفاني في العمل. كان يقدم أفضل ما لديه من المعلومات والجهد أثناء الدرس، بطريقة تشعر وكأن لسان حاله يقول: “أريد أن أنام مرتاح البال والضمير”. في إحدى الأيام تأخر هذا الأستاذ العظيم وبقينا ننتظره لبضع دقائق. ونحن ننظر من الطابق العلوي، ننظر إلى وسط ساحة المدرسة، دخلت ابتسامة جميلة تحملها خطوات مسرعة، حضر أستاذنا الطيب، عندما وصل إلينا ليفتح باب القسم، قال: “سامحوني على التأخير”، هكذا هي المواقف، ترسم كما هي، بالشكل التي كانت عليه، وتترك أثرا كذلك بالشكل التي كانت عليه، كم من طفل تصالح مع المدرسة بفضل مدرسه، وكم من تلميذ فضل مادة على أخرى لأنها تدرس من طرف أستاذه الذي يحبه، طفلة صغيرة تطلب من أمها كل يوم أن تشكل لها الظفائر في شعرها لأن مدرستها تثني على ذلك، ونجد العكس.

هنالك سلوكيات تجعل التلميذ يخاف الذهاب إلى المدرسة ومن التعليم ككل، إن لم يخف التلميذ إلى درجة الرعب لن يدرس جيدا، وإن أخطأ وحصل على نقطة ضعيفة في الامتحان يجب أن يعاقب ليكون عبرة لباقي زملائه، هي مجموعة من الطرق التربوية التي أبانت عن ضعفها مع الوقت، ناهيك عن المقارنات هذا الأول هذا الثاني، هذا بارع. هذا أذكى، يا معشر الكبار اتركوا الصغار. اتركوهم لطفولتهم، لا تدخلوهم في متاهة المقارنة منذ صغرهم، المقارنة متعبة، كل واحد منهم وأين يلمع نجمه، كل واحد ولديه ما يميزه، دعوهم ليعشوا طفولتهم.

تعالوا معي لنعيد المشهد بطريقة أخرى، أستاذ لطيف مبتسم، شغوف باختصاصه، يستقبل تلاميذه بتحية باسمة تبعث في القلب طمأنينة تقول: لا تخف يا صغير، أنت في مكانك الطبيعي، صبور يعي ما تتطلبه مهنته، يعي عظم المسؤولية التي يحمل، يحرص جيدا على أن يتعلم التلميذ دون أن تؤذي شخصيته، أنا على يقين أن النتائج ستكون أفضل وستكون المدرسة نقطة انطلاقة ونقطة تحول أيضا.

هكذا بدى لي المشهد، إذا تعدلت إحدى أهم ركائز التعليم وهكذا بجب أن يكون، لأنك يا حضرة المدرس ولو لديك إكراهات وتعيش ضغوطات ولو أن ظروف العمل صعبة حاول من فضلك أن تخلق توازنا، توازنا جميلا بين ما تعيشه وبين ما يجب أن تجعل الطفل يعيشه.

بما أننا نتحدث عن المشاهد، هنالك مشهد دائما يعيش في مخيلتي، مشهد القدوة معلم البشرية، نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام عندما واسى الصغير “أبو عمير” في وفاة عصفوره، جلس بجانبه يخفف عنه ما نزل به وهو طفل لم يتجاوز عمره الرابعة. لم يتركه عليه الصلاة والسلام ولم يستهين بحزنه يعلم جيدا أنه كيان له مشاعر، في بعض الأحيان يرى حزن الطفل على أنه مبالغة، لأن الطفل ليس له الحق في ذلك كيف يشعر بذلك وهو طفل الصغير، على العكس تماما حتى الأطفال الصغار يخوضون معارك ويعيشون مخاوف دون أن يشعر بهم أحدا، والأعجب في الأمر أنه لا يبحون لأحد بذلك.

لا أخفي عليكم أنني ترددت قبل مشاركتي لكم لهذه الأسطر، كما قال الشاعر “وأمام القرار الكبير جبنت”، لأنني شعرت بشيء من المسؤولية، هذه المرة لن أكتب أفكارا ستبقى حبيسة كتابي بل ستنطلق ويقرؤها غيري، شعرت بمسؤولية الصدق أن أكون صادقة في مشاعري دون مبالغة، ومسؤولية أن يكتب قلمي بمصداقية. أنا اليوم كتبت لمرحلة مهمة عشتها وما زالت تعيش داخلي، لمرحلة التشكيل النفسي والذاكرتي.

1xbet casino siteleri bahis siteleri