انتحال الشخصية التكنولوجي
أضحى الظهور بشخصية مزيفة أمرا متهافتا عليه بكثرة في الآونة الأخيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، وحين أقول شخصية مزيفة، لا أقصد شخصية يبتكرها الخيال أشبه ما تكون بقناع تنكري، بل إن ما أقصده هنا، هو تقمص دور شخصية حقيقية على أرض الواقع، وعلى الأغلب تكون من النوع الذي له حيز لا بأس به من الشهرة على مواقع التواصل الاجتماعي. وذلك من خلال التحدث بلسانها، والظهور بوجهها. وهذا التقمص في الغالب يكون ناتجا عن خواء وفراغ خلفهما التأثر المبالغ فيه بمؤثرين وشخصيات مشهورة، كما أنه لا يعبر إلا عن الهوس بحياة وتفاصيل الشخصية المتقمصة.
أن تأخذ صورا لطرف معين وتملأ بها حسابك على أساس أنها أنت، ولا تفتأ ترفقها بتعابير لا طائل منها سوى حصد الإعجابات، وتدفق التعاليق بالإطراء والمدح والتبجيل، ليتضخم عنصر الانتحال ويصل حد النخاع، ويرتفع ثاني أوكسيد الغرور، إلى أن تندثر الثقة بالهوية الأصلية، ويصبح الظهور بها يوما في العوالم الافتراضية أمرا مستحيلا لا سبيل لتحققه إلا إذا ما وعي الشخص، وعاد لرشده. يبقى السؤال المطروح هنا هو: ما السبب خلف هذه الآفة التي يشهدها مستخدمو حقول الإنترنت عامة، ومواقع التواصل الاجتماعي خاصة؟
يشهد العالم التكنولوجي تغيرات كثيرة على مستوى شخصية الأفراد، والتي تنتج في الغالب عن احتكاكه المستمر وغير الفعال بمواقع التواصل الاجتماعي؛ التي أصبحت تشغل حيزا كبيرا في حياة الأفراد، وتأخذ من وقتهم عمرا يحسبونه لن يقضى، وسنين تذهب مهب الريح، وتغدو هباء تذروه رياح التوغل والغوص غير المحمود داخل هذه العوالم الافتراضية.
إن كثرة التلميع والبذخ والرفاهية التي نمر عليها في مواقع التواصل الاجتماعي، غدت غاية يتهافت عليها الصغير والكبير، فلا تهم السبل والطرق التي سلكها الفرد لبلوغ هاته الغاية، بقدر ما يهمه عدد المشاهدات التي حصدها، والإعجابات التي أمطرتها عليه سماء العالم الافتراضي، والتعليقات التي جادت بها قريحة المتابعين الكرام.. ومتى ما زاد العدد، إلا وتضخمت أناه معانقة سحب الجشع والتميع طلبا للمزيد.
نتيجة لهذا الهوس المقرف، ظهرت جماعة من المبتدئين حديثي العهد بهذه العوالم الافتراضية، من أجل الركوب على أمواج المثالية، والحسن المفلتر، والرفاهية، لم تجد سبيلا سوى تقمص هويات مزيفة تخول لها العبور إلى ضفة الظهور، لتكون ذات مقام مرموق، وتحظى بحسن ممشوق، يكون بالشهرة مرفوقا. هذه الفئة في الغالب تأبى تقبل شخصيتها الأصلية على أرض الواقع، بالتالي ترفض الظهور بها في عالم مكهرب بالمثالية المبالغ فيها، والتلميع الذي كشف الستار عن عيوب وترهلات في الأخلاق والآداب. فبينما يتهافت الأغلب على إخفاء العيوب، وتغطية جوانب النقص التي يعيشونها في حياتهم، لا يدركون أنهم بذلك يكشفونها عارية أمام الملأ؛ لأن معادلة الحياة لم تكن يوما بمجهول واحد، بالتالي فإن حياة مثالية تضم الجمال، والحسن، والثراء، والسعادة، والهناء، والحب اللامشروط هي معادلة مستحيلة لا حل لها.
نعود لصميم الموضوع، ألا وهو انتحال الهويات. صادفت في الآونة الأخيرة أمثلة كثيرة من هذا النوع؛ أول واحدة أذرفت دموع أمة من الناس، وأقيمت على إثرها جنازة في التعليقات، وتداعت لها القلوب بالانفطار، واهتزت النفوس بالانكسار، بعد أن نشرت على الصفحات الكبرى خبر وفاة ابنها ذي الخمس سنوات، والذي هو في الأصل حي يرزق في بلاد بالشرق الأوسط، هانئ وسط أسرته وعائلته.
المريضة الصامتة الأولى كانت تعيش حياتين إحداهما على أرض الواقع، والثانية على أرض المواقع، ولأن معرفة الناس قليلة بالشخصية التي تقمصت دورها؛ واختارت أن تنتحل حياتها، وتشاركها زوجها وأطفالها بعيدة عن التعريف داخل الحقل الفايسبوكي، بذلك نالت تعاطف حشد من الناس بعد أن أملى عليها عقلها أن تفتعل أمرا يغذي شهرتها، ويرفع سقف المتابعات وطلبات الصداقة على صفحتها. لكن، ما فتئت أن انكشف أمرها بعد سنين من الكذب والتحايل والانتحال. فسبحان من جعل حبل الكذب قصيرا لا يمتد ولا يدوم.
إن المرء إذا ما هجره الرضا، وغادرته القناعة، يضحى جحودا راكضا خلف حطام الدنيا ليسد جوع نقصه، ويروي ظمأه باللهاث المتواصل خلف المزيد.
هاجر الدراز
أتساءل عن الجدوى خلف ما يقترفه المرء من تساهلات وتشوهات تؤذي ذاته، وتضخم غفلته، وتودي به منفصما بين ما هو عليه، وما يتمنى أن يكون عليه. لم هذا التشويه النفسي، والإهمال المتعمد لذاتنا الأصلية، وهروبنا المتعمد من هويتنا الحقيقية؟ هل يا ترى هذه القطيعة المتعمدة مع شخصيتنا الحقيقية في العوالم الافتراضية ستعود علينا بالإنجازات والنجاحات المتوالية؟ طبعا لا، فما دمت أنكر شخصي وهويتي، فلن أكون إلا نسخة مزيفة عن أصل مشوه بترت منه الثقة والقناعة والرضا بما خلقه الله عليه.
يستعصى على المرء أن يعرف النفس البشرية، وما تطمح إليه خلف أفعالها، مهما كثرت الاحتمالات والتفسيرات، إلا أن صحتها تظل نسبية في خانة الحقيقة التي تنطوي عليها، والتي لا يعلمها إلا الله وحده، فسبحانه يعلم ما نسر وما نعلن علام الغيوب. عود على بدء، حياة المثالية لا محل لها من الوجود على أرض الواقع، والشهرة ليست معيارا لإثبات الوجود في هذا العالم، وليست رمزا للصلاح والفلاح والنجاح. هي ليست إكسير الحياة، ولو علم المرء ما تخلفه الشهرة من مسؤوليات أمام الله يوم الحساب، وما تفرضه من صراع ذاتي مرير، وتحكمات مشمئزة، وتدخلات مستفزة، ونقب وتسليط للأضواء بحثا عن النقص والفضائح والعيوب، لما سعى إلى ذلك سبيلا، ولتبرأ منها إلى يوم يبعثون ويوم الوقت المعلوم.
إضافة لما سلف ذكره، يقول جورج برنارد شو: “الحياة هي أن تكون نفسك.” لو أنت نفسك تأبى تقبل نفسك، هل تظن أن هناك من سيفعل ذلك بدلا عنك! في الواقع والمواقع يجب أن نكون نحن، هم نحن أنفسنا؛ ضميرنا واحد، ومبادؤنا واحدة، شخصيتنا واحدة، وأخلاقنا واحدة، وصدقنا واحد لا ثاني له. ليس علينا أن نخجل مما نحن عليه، صورتنا خلق الله، مستوانا الاجتماعي هو رزق من الله، حياتنا هبة من الله، وإن كنا نعاني من عيب أو نقص. فليس علينا أن نغفل عدد الأنعم التي لا تعد ولا تحصى، والتي نتمرغ في نعيمها دون أن نلقي لها بالا.