الحلم المغربي

921

على أرض عربية مسلمة، كان للعالم موعد مع شهر استثنائي خاص. هناك من جزم أنها تجربة لن تعاد مثلها رغم تعدد نظيراتها سابقا، لمفاجآتها الكثيرة وتطور أحداثها المدهش، وآخرون انبهروا من كل ما عاشوه من أحداث متسارعة. كان العالم مع موعد من ال “لا” توقعات وال “لا” احتمالات في أكبر تظاهرة رياضية لكرة القدم، إنه كأس العالم بنكهته العربية… إنه مونديال قطر 2022.

وكما لا يخفى على العالم وعلى بعد أشهر قليلة من المونديال، تعرضت قطر لموجة من الانتقادات والمطالبات بسحب أحقية الدولة في التنظيم، بسبب حظرها لأي ممارسات أو إشارات تدعو للمثلية ومنع الكحول بالملاعب، وغيرها من القوانين التي تحفظ للدولة مبادئها دون المساس بدينها أو معتقداتها، كما طالتها الكثير من التهكمات والإشاعات الباطلة إحباطا لهمتها. ريح
غربية غاضبة تحاول إفساد ما تحاول دولة لسنوات بنائه، لمجرد أنها دولة عربية بل مسلمة وحسب معاييرهم الغربية فالعرب متشددون رجعيون متخلفون، لا حق لهم في تنظيم المحافل الدولية، هي نفس المعايير التي تدعو إلى التعايش وحريات الاختيار والممارسات الدينية.

تتجهز قطر دون كلل أو استسلام، ترتدي أزقتها الكمال وتتزين بالأعلام وتصدح مدرجاتها فرحا بالزوار، محاولة في كل تفصيل من تفاصيل الدولة إبراز تاريخها بالخط العريض وإظهار سماحة الإسلام بكل لطف وخفة، وهدم كل الصور النمطية الخاطئة المروجة عنهم وعن العرب. يفتتح المونديال بملعب البيت الذي يعكس تاريخ وحضارة دولة، الافتتاح الذي أخرس الأفواه وشل الأفكار، بدءا  بآيات من القرآن الكريم تدعو لتعايش الشعوب رغم الاختلاف، مؤكدا ما سبق أمير قطر في كلمة لامست الحضور معتزا بما أنجزوه كبلد منظم ومرحبا بضيوف بلده قائلا: “من قطر، من بلاد العرب أرحب بالجميع في بطولة كأس العالم 2022” متبوعة بلوحات فنية متنوعة تمزج الثقافة القطرية بالعالمية مع الكشف عن “لعيب” تميمة المونديال، معلنين انطلاق أولى المباريات.

ينطلق المونديال بحضور عربي ضئيل، هي أربع دول روهن على إقصائها جملة من دور المجموعات متسيدة أسفل الترتيب،  مصدقين أن النصر لا يحق سوى لمجتمع غربي احتكر الكأس لسنوات، فصارت المشاركة العربية والإفريقية للمتعة وإضفاء  الصبغة العالمية للمنافسة. تخسر قطر أولى مبارياتها، لتنطلق بعدها سلسلة مفاجئات مونديال قطر.

بعين الصقر وحدتها، تقتنص السعودية هدفين من الأرجنتين، وتخرج منتصرة فاتحة أبواب الأمل، مبعثرة الأوراق وضاربة  التوقعات عرض الحائط، معززة الثقة في صفوف المنتخبات العربية. هو إنجاز عظيم لكنه بقي يتيما، لم تنصف الكرة الصقور ولم تكن النقاط الثلاث كافية للتأهل إلى الدور المقبل. كانت بداية المونديال استثنائية ذات طابع عربي خالص، خاصة بعد تعادل نسور قرطاج أمام الدنمارك، وفوزهم على بطل العالم في النسخة الماضية غير أن خسارة واحدة، كانت كافية لإقصائهم من دور المجموعات. أرعبت الدول العربية الغرب فأصبحت دول بعظمة الأرجنتين وفرنسا، تدخل دوامة الإقصاء. دون نسيان كيف سلب “الساموراي” التأهل من الماكينات الألمانية، أو كيف نزعت النمور الحمر مخالب الأوروغواي، ناهيك عن دول أخرى كسرت الغرور الغربي وهزت استقراره الأبدي.

وفي خضم هذا الفخر العربي، ترقب المغاربة المباراة الأولى لمنتخبهم الذي يتعادل أمام وصيف حامل اللقب السابق “كرواتيا”. تعادل بدا للبعض غير كاف وحامت العديد من الشكوك حول إمكانية الفريق تخطي وحش دور المجموعات مرة
ثانية بعد مونديال 1986 في سادس مشاركاته بكأس العالم، خاصة بعد خيبة الإقصاء من نفس الدور سنة 2018… يخرج الناخب الوطني “وليد الركراكي” أو كما سمى نفسه: “راس لافوكا” دلالة على عناده، الناخب الذي تم تعيينه على بعد أشهر قليلة من المونديال ليجمع شتات فريق ذاق من المشاكل الكثير، رافعا شعار “ديروا النية”، داعيا الجمهور المغربي التحلي بالإيمان والثقة
بفريقهم الوطني ومحاربة أفكارهم الانهزامية، مؤكدا أن إيمانهم بالفوز ما سيجعل كرة الخصم تمر بردا وسلاما على عرين الأسود بل ستصطدم بالعارضة وتخرج. كانت لهذا الرجل لغة غريبة تخاطب القلب المغربي قبل عقله وتدعوه دون تفكير للاستجابة. “دارو النية” كما طلب منهم، تمسكوا بخيط الأمل السميك الذي نسجه “وليد” من خيوط ثقافة النجاح التي يتبناها، واستعدوا جيدا للتشجيع سواء بالملعب أو خارجه بالمنازل والمقاهي، وانتظروا مباراتهم ضد بلجيكا بروح جديدة.

حسب منطق المحللين القائم على تصنيف الفيفا للمنتخبات والنتائج التي حققها المنتخب البلجيكي طيلة مشاركاته المونديالية عامة والمشاركة الأخيرة خاصة، إضافة إلى النجوم التي يضمها لصفوفه، فقد اتفق الجميع على أن الخسارة المغربية هي الأقرب للواقع، والتعادل أو الفوز مجرد طموح منتخب وحلم جمهور.

تبدأ المباراة وحامي العرين “ياسين بونو” خارج أرضية الميدان، ظن كثيرون أن شباك الأسود في المتناول ناسين أن لنا في دكة البدلاء ما يعادل الأسد الجريح. يلبي الحارس البديل “منير المحمدي” نداء المدرب، يتجند دون تردد ويبدأ المباراة أساسيا. شوط أول من محاولات الفريقين كسر التعادل دون جدوى، لينتهي الشوط كما بدأ بعد أن تم إلغاء الهدف الخرافي للساحر “حكيم
زياش” بداعي التسلل، إلغاء لم يحبط عزيمة الأسود بل جعل من زئيرها الأشد رعبا. يتوحد صوت المدرجات ب “سير” طيلة المباراة، كوقود تجعل الأسود تحكم الملعب أرضا وجمهوره يحكمه بصراخه جوا. دفاع مغربي صلب يحبط كل المحاولات
البلجيكية الممتدة إلى الشوط الثاني، وحارس يدرك جيدا أن مستقبل منتخب متوقف على دهائه. يطول الصبر المغربي في تحصيل الهدف، ليكسره اللاعب “عبد الحميد الصابيري” فور دخوله بدقائق، بهدف يهز الشباك البلجيكية ومدرجات ملعب الثمامة ومعه المغرب كاملا مستمتعا بلذة التقدم، فيأتي بعدها هدف الأمان والاطمئنان في الوقت بدل الضائع بأقدام “زكرياء أبو خلال” بعد تمريرة حاسمة بالقدم الذهبية اليسرى للساحر، داعب قبلها الكرة بكل براعة. تنتهي المباراة بانتصار مغربي نظيف، ليتوج الانتصار بسجدة شكر للمولى وقبلة على رؤوس الأمهات اللواتي لم تتوقفن طيلة أطوار المباراة عن الدعاء لأبنائهن.

كانت فرحة الفوز على بلجيكا الأجمل، فهي بداية سلسلة انتصارات طويلة والصفعة الأولى على وجه المشككين في كتيبة الأسود. هي الباب الذي فتحت معه الطريق نحو الشموخ، هي فرحة المغربي الأولى، دمعته الأولى وأمله الأول… مباراة احترام ووفاء، هي تحصيل حاصل لمجهودات لاعب وحب مدرب…وثقة جمهور.

لم يفصلنا عن الحلم سوى مباراة واحدة، مباراة لا تقبل تعادلا أو خسارة، مباراة تربح فقط.  تتعز الثقة في نفوس المغاربة، ويملأها اليقين بالعبور، ثقة لازمت لاعبي المنتخب الوطني وشحنتهم بالواجب الوطني وروح “الكرينتا”.

الأول من دجنبر، كان للكرة المغربية موعد مع التاريخ، مباراة أخيرة بدور المجموعات ضد منتخب كندا، منتخب حسم أمر إقصائه مسبقا، وما مباراته أمام المغرب إلا مباراة كبرياء وحفظ ماء وجه، وما أشد شراسة لاعبين لا يملكون ما يخسرون، لكن للأقدام المغربية رأي أخر! يسجل الساحر المغربي “زياش” أسرع هدف في البطولة في الدقيقة الثالثة من عمر المباراة، هدف قاتل، تعالت معه المدرجات، فلا صوت آخر يسمع غير صوت مغربي موحد يهتف ب “سير” دون توقف. الكلمة التي تهز كيان الخصم وترعبه، فلا يرى أمامه 11لاعبا بل كتيبة أسود تزأر متجهة نحوه وخلفهم أسد ثاني عشر: الجمهور. ثم فجأة، يستأسد حامل القميص 19 “يوسف النصيري” بهدف ثان تقرب المغرب من الحلم، وما هي إلا دقائق حتى يقلص الفارق بهدف ذاتي لم يغير من حقيقة تأهل المغرب لدور الثمن. وكما عرف عن وليد المدرب، فقد حصن عرينه وشد الحصار وأدخل الأسد “جواد الياميق” الذي بدخوله يسدل ستار المباراة قبل أن تنتهي.

صدق من قال أن الوقت في الانتظار يطول، انتظر المغاربة والعرب صافرة النهاية على أحر من الجمر، فقد تم إقصاء كل الفرق العربية سابقا رغم أدائهم المبهر أمام أعتى المنتخبات، وبقيت الآمال العربية معلقة بين أقدام الأسود، ببقائها ستكون الدولة العربية الوحيدة بمونديال العرب.

يصفر الحكم معلنا عن تأهل منتخب المغرب متصدرا مجموعة الموت، تاركا وراءه الشياطين الحمر والكروات يتصارعون من أجل البقاء. عبر المنتخب المغربي دور المجموعات متحكما بقدره وأدخل البهجة والسرور على الملايين في أرجاء العالم، سواء أجمعتهم رابطة الانتماء المغربي أو رابطة العروبة والإسلام. تعالت الهتافات في الثمامة، الملعب الذي شهد على إعادة صناعة
المجد بعد 36 سنة.

بقميص أبيض مبلل بعرق النصر، ذرفت الدموع فرحا وسجد اللاعبون شاكرين الله على تحقيق الحلم، مسرعين إلى أحضان أمهاتهم وكأنهم يقولون: “انظري يا أمي إلي، أنا ابنك وابن تلك الأرض الطاهرة… ارفعي رأسك يا أمي، كسبنا الرهان وأخرسنا الأفواه… افتخري يا أماه، فالمستحيل لم يعد مغربيا… أماه، نحن نكتب التاريخ من جديد!” يندفع اللاعبون إلى أحضان الملعب، يحتفلون والجمهور بفوز انتظروه لعقود. يحملون قائد الكتيبة ويحلقون به عاليا بعد أن مسحوا عن رأسه طويلا تيمنا بتلك الرأس التي استطاعت في غضون ثلاثة أشهر السمو بفريق بصم الجميع دون تفكير أو تردد على خروجه أسفل الترتيب.

وهنا في المغرب وفي أرجاء العالم العربي، طالت الاحتفالات وكبر الحلم المونديالي في قلوبهم وعقولهم، وانتقلت الرغبة من مجرد أداء مشرف إلى معانقة الذهب. حلم شدد عليه “الركراكي” في إحدى لقاءاته الصحفية وأكد على ضرورة التمسك به وأعطى للعالم درسا في النجاح وقوة الإرادة، فلا حدود للحلم في قاموسه ولا مجال للاستسلام، لا يعرف شيئا سوى الموت في الملعب فداء لقميص الوطن. فهو المغربي الذي ذاق من الخيبات الكروية الكثير، فأراد لبلاده نصرا غير مسبوق وللعلم أن يرفرف عاليا في سماء الدوحة.

قبل أربع سنوات بكأس عالم روسيا، تجرع المغرب مرارة الإقصاء المؤلم على يد البرتغال والإسبان، فجاءته الفرصة سانحة لإرجاع الصاع مضاعفا، إذ جمعته مباراة الثمن بالماتادور الإسباني. يعرف المدرب الوطني جيدا صعوبة المهمة، لكنه يؤمن بفريقه جيدا، ويدرك قدرات لاعبيه. الخصم القادم قوي وتاريخه الطويل يشهد له، مهمة الصيد بدور الثمن صعبة لكنها لم تكن مستحيلة على الأسد الأطلسي.

بالمغرب، قطر، فلسطين، مصر، ليبيا، السنغال، اندونيسيا، عمان، السعودية، موريتانيا، السودان، البحرين… بالقارة السمراء والعالم العربي حمل العلم الأحمر ذو النجمة الخضراء، وأسقطت كل الحدود الجغرافية بين الدول فتوحدوا دون اتفاق على تشجيع فريق واحد. لم يعد المنتخب المغربي منتخب المغاربة فقط، بل أصبح منتخب الجميع مصحوبا ب “نا” كإثبات انتماء ووحدة.

قبيل المباراة، طاف شبح شح التذاكر وغيابها وخاف المشجعون حرمانهم من مساندة فريقهم بالملعب، وكما أقرت خصوم المغرب السابقة، فالجمهور قوة المغرب الضاربة. لكننا أصحاب الأرض وقد أكدت دولة قطر ذلك سابقا، واعتبرت بلادها بلاد العرب والمسلمين، وبعد معاناة تم توفير ما يكفي من التذاكر لمواصلة المهمة التشجيعية.

امتلأ الملعب عن آخره وتلون باللونين الأحمر والأخضر، طغت المؤازرة المغربية بحكم الوجود العربي الكبير وهتف الجمهور مطالبا بمسيرة خضراء أخرى على المستوى الرياضي من أجل إخراج اسبانيا طوعا من المونديال. يدخل المنتخب الوطني بقميصه الأساسي، بهدوء وثقة كبيرتين وحنكة مدرب ظهرت جليا في الميدان. ظهر المحارب “سفيان أمرابط” بقوة عشرة رجال، مقسما على حياته قطع كل الكرات الممكنة أو الموت هناك، وكان الأسد “عزالدين أوناحي” روحا دون جسد ينقل الكرة بخفة ورشاقة، وأهانت مراوغات “سفيان بوفال” الماتادور الإسباني بكل خبث. أما عن قلبي الدفاع، فقد كانا الحصن المنيع الذي وإن
تجاوزه الإسبان، وجدوا حامي العرين متصديا لكل ضرباتهم وكأن جسده يتمدد عرضا مغلقا المنافذ لشباكه.

تطول المباراة ومع كل دقيقة تمر، يزداد التوتر في صفوف الجماهير المغربية والعربية والإفريقية، وطيلة هذه اللحظات الصعبة لم تتوقف الأهازيج والشعارات والتشجيعات بل امتدت إلى الوقت الإضافي دون توقف. تمر الساعتين، و لا يزال الفريقان محافظان على تعادل سلبي لن يكسره سوى ضربات الترجيح.

اجتمع لاعبو الفريق الوطني وقرأوا الفاتحة جماعة راجين من المولى التوفيق والسداد، ابتسامة هادئة لم تفارق وجنتا “ياسين  بونو” وكأن النتيجة حسمت بعقله مسبقا… تلك الابتسامة التي أثارت التساؤلات وعزفت على أوتار الخصم سمفونية مستفزة. تفتتح ضربات الحظ بتقدم الفريق الوطني بأقدام “الصابيري” ويوسع الفارق بعد أن أخرج القائم الأول الكرة الإسبانية قسرا. يقف “حكيم زياش” أمام المرمى وخيبة البنين السابقة لا تفارق خيال كل مغربي، يسدد الهدف الثاني بقوة حتى كادت الكرة تخترق منتصف الشباك فيزأر مخرجا كومة اللهب المشتعلة بصدره، مفككا العقدة التي لحقته لسنوات. صارت الآمال رهينة بقلب الأسد “بونو” الذي تمكن بكل براعة دون التخلي عن ابتسامته من صد كرتين والحفاظ على نظافة شباكه، ليتقدم منتخب الوطن بهدفين نظيفين، فيقيد شرف العرب بين أقدام ظهير المغرب الأيمن “أشرف حكيمي”. ترفع الأيادي تضرعا إلى الله تعالى ولا شيء يذكر غير “يا رب”، ليسدد هدفا مجنونا في الشباك الاسبانية تهتز له أركان الملعب، يتبعه برقصة البطريق نكاية لمرود الثيران الإسبانية. ينهار الفريق باكيا ساجدا وكيف لا وهو الملقب بفريق الساجدين، يسقط العنكبوت “بونو” أرضا من فرط الحماس، وتنقلب ابتسامته إلى دموع تأبى التوقف، فيحمله اللاعبون على الأكتاف اعترافا ببطولته في حسم المباراة. وفي لحظة مشحونة بالعواطف والمشاعر الجميلة، يجوب “الركراكي” الملعب طولا وعرضا غير مصدق ويحيي الجمهور بطريقته التي صارت محفوظة في قلوب الجميع. ينفجر المغرب ولا تكاد سعادة أبنائه تتسعهم من طنجة إلى الكويرة، بل هي افريقيا كاملة ودول العرب تتغنى فخرا بالمغرب. فانتصار المغرب، هو انتصار كرامة وشرف وإعادة اعتبار لشعب أمام دول تنظر إليه نظرة احتقار واستعلاء.

هي لحظة إدراك عابرة، حين تتذكر أن شباب هذا الوطن يتمنون مغادرته جاهدين، آملين تحقيق الحلم على الضفة الأخرى، بحثا هناك عن بارقة أمل لعيش أفضل متحملين ما تحمله الغربة من مرارة وحنين. وما إن ينتكس الوطن أو يفرح حتى تجدهم يهرعون إليه لاهثين، يبكون لحزنه ويزغردون لانتصاراته. شيء ما بهذه الأرض، يعيدك إليها مهما ابتعدت ويملأ قلبك بحبها مهما انكسرت ويجعلك تفديها بروحك مهما بلغ سخطك. هي أم لها أبناء بررة، يخدمونها دون كسل، ويفتخرون بانتمائهم لها ولا ينكرون فضل إنجابها لهم.

بعد كل تأهل للفريق الوطني، لا يكف “وليد” عن قوله: “لم نبدأ بعد، لا يزال في جعبتنا الكثير لنقدمه، لم نخرج كل ما نملك من مؤهلات وقدرات. استمروا في الحلم، آن لشمس افريقيا أن تسطع!” هي جملة، تجدد الثقة بالمنتخب وتجعل الجميع يترقب القادم بلهفة. يثير الحماس بقلوب الجميع مؤكدا على أن وقت افريقيا قد حان والظفر باللقب أقرب مما يبدو. علا سقف الطموحات، وأضحى للمغاربة روتين كروي قبيل كل مباراة، حيث تحجز المقاعد في المقاهي صبحا ويلتقي الجميع باكرا لتجديد مخزون النية الدوري. يدعون الله مجتمعين أن يوفق الأبطال في مواصلة كتابة التاريخ، راغبين في استمرار الفرحة طويلا. صدقا، هو حلم جميل لا يريدون الاستيقاظ منه.

ترتفع فرصة التتويج المغربي باللقب، ويحجز المغرب مكانا في صفوف الكبار، وبدور الربع يعيد معركة وادي المخزن لتنتهي بفوز مغربي مستحق، حسمه ارتقاء مبهر ل “النصيري” أمام انبهار الدون كريستيانو الذي وضعت أرقامه في خطر أمام عينيه، وطرد والبرتغال من أرض المونديال. انزوى “وليد” في دكة البدلاء باكيا، مصدوما من هول ما حققته العائلة. عانق الفريق بعضهم غير مصدقين، منتشين بحلاوة التقدم والانتصار، فلا الملعب احتوى فرحهم ولا الدموع عبرت عما يخالج كيانهم. شاطروا الملعب مع أمهاتهم وأبنائهم، يراقصونهم على ركح الحياة كما يراقصون الكرة.

كان للوصول إلى النصف النهائي والتربع على عرش المربع الذهبي، وقعا جنونيا. أنكرته العقول وأعرضت عنه لكبر الإنجاز، ولم تصدق أن المغرب يقف ندا لحامل لقب النسخة الماضية، الخصم العنيد: الديك الفرنسي.

كان في الجو حزن غريب صباح النصف النهائي، كتلك الريح التي تسبق العواصف. فبعد رحلة الصيد الطويلة ولقلة الخبرة في الأدغال، سقطت الأسود متعبة جريحة، تصارع من أجل البقاء بكل ما تبقى لها من طاقة وروح. تحاول بكل بسالة الصمود، لكن الظلم التحكيمي كشر عن أنيابه واتفق مع التعب والإصابات على إنهاء رحلة الأسود في أجمل فصل من الحكاية.

مرحلة من الفخر والاعتزاز تلك التي وصل إليها الحلم المغربي، فحتى أكبر المتفائلين لم يتوقع سيناريو مماثلا. لكن الغريب أنه ورغم عظمة الإنجاز اللامسبوق، تغلغل حزن الإقصاء في نفوس المغاربة والفريق ولم يرضوا الخروج دون بلوغ الحلم، فلا مرتبة رابعة أو ثالثة أو حتى ثانية تروي عطشهم، هو الذهب وحده ورفع الكأس عاليا ما يبتغون. هي روح جديدة، روح تؤمن أن باستطاعتها تحقيق المستحيل بالإصرار والعزيمة والكثير من العمل المستمر، هي روح تدرك جيدا أن الانتصار قريب إن هم تخلصوا من عقلية الانهزام والفشل.

“أصحاب السمو والمعالي والسعادة، السيدات والسادة يرجى الوقوف في حالة القدرة لعزف النشيد الوطني لمنتخب المغرب ” هي جملة ستظل محفورة في قلب كل مغربي تقشعر لها الأبدان كلما ذكرت، وتعيد شريط الذكريات إلى أولى المقابلات. يكفي فخرا أن نشيد المغرب الوطني أعيد سبع مرات على مسامع العالم، كأقصى عدد ممكن في المونديال. صدى النشيد الوطني وقوته، تغلغلت في كل زاوية من زوايا الملعب وتشبعت به أرضية الميدان ليستشعره الأسود مع أول خطوة لهم على المستطيل الأخضر.

يعيدهم القدر لمواجهة “كرواتيا” بمباراة الترتيب، فيلتقي من جديد أقوى دفاع بالبطولة مع أقوى خط وسط. لينهزم المنتخب الوطني أمام التعب بعد أن بدل الستة والعشرون لاعبا مجهوداتهم كاملة وينتهي اللقاء بمركز رابع يقفز بالمغرب عاليا متصدرا ترتيب الفرق العربية والافريقية.

قطعا، التاريخ لا يتذكر سوى الألقاب، لكنه لم ينسى أبدا المشاركة المصرية لأول منتخب عربي يتأهل إلى المونديال سنة 1934، ولا أول فوز عربي بأقدام تونسية أمام المكسيك بمونديال 1978، ولم ينسى أيضا التأهل العربي الأول إلى الدور الثاني سنة 1986 لمنتخب المغرب. هو نفس التاريخ الذي سيتذكر جيدا أول منتخب عربي افريقي يصل للنصف النهائي مقارعا الكبار ومنهيا رحلة العديد من المنتخبات القوية، هو نفس التاريخ الذي سيذكر طويلا منتخب المغرب كرابع منتخبات العالم، المنتخب الذي حفظ للعرب كبريائهم بمونديال على أرض العرب.

لعب المنتخب المغربي سبع مقابلات وعلى حافة النهائي غادر المنافسة، ليجد نفسه على قمة الشموخ يقف. بهمة الأسود وشجاعتها، رفع سقف التحديات عاليا وصنع لنفسه اسما على قائمة الكبار وانتشرت الجلبة التي صنعها في عالم المستديرة أرجاء العالم.

وكما لم يحدث قبلا، يغادر “راقصوا التانغو” أبطال مونديال 2022 قبل المنتخب المغربي، الذي حظي بضيافة قطرية مطولة تقديرا لملحمتهم التاريخية. وهنا في المغرب، شعب بأكمله ينتظر بلهفة فريقه متجهزين لاستقبال تاريخي أسطوري. احتشد المغاربة بالعاصمة الرباط، منتظرين الأبطال الذين استوعبوا فور وصولهم وقع تأهلهم على أبناء بلدهم.

استقبلوا على طريقة الكبار، وكالأطفال الصغار قفزوا فرحا وامتلأت قلوبهم سعادة، فانعكست على وجوههم. أبطال في ضيافة الوطن، بكل شموخ وفخر يحيون أهلهم المغاربة ويشكرونهم على دعمهم اللامشروط طيلة المونديال، في إقصائهم قبل تأهلهم. من قال إن الكأس ضرورية للتتويج، فبنخوة الملوك وعلى الطريقة العلوية الأصيلة، و بين أسوار القصر الملكي، توجهم ملك البلاد كل باسمه، أمام أمهاتهم بأوسمة تغنيهم عن الذهب، بل تدخلهم التاريخ من بابه الأكبر، معلنين عن بداية انتصارات الوطن، متعطشين إلى الفوز أكثر.

صورة ملكية للتاريخ، لملك البلاد وأبطالها رفقة أمهاتهم. الأمهات اللواتي تعبن في تربية أبنائهن، فمنهن المهاجرات إلى الأراضي الأوروبية، وأخريات ضحينا بكل ما يملكن لأبنائهن. بريق من الفخر يملأ عيونهن وهن في ضيافة ملك يقدر الإنجاز وأصحابه.

في عز شتاته وأزمته، وبعد أن نالت الخلافات من صلابة المنتخب المغربي، وعلى بعد ثلاث أشهر فقط من أهم مناسبة في تاريخ كرة القدم، جاء “وليد الركراكي” قائد الكتيبة الجديد وأخذ على عاتقه إعادة بناء المنتخب المغربي، استبدل كلمة فريق ب “العائلة” وبذكائه العاطفي المتفرد عزز قيم وروح التفاؤل وجعل من الفوز ثقافة لا تتجزأ من وجود أسوده.

وثق في ” النصيري” بعد أن عانى من التهكمات والتنمر طويلا، أعاد “زياش” الثائر بعد أن تخلى عن تمثيل بلاده، وشجع لاعبي البطولة الوطنية. جاء “وليد” بنسخة جديدة للمنتخب، نسخة لم يسبق لأحد أن رآها من قبل. تقنيا، يمتلك المغرب من اللاعبين أفضلهم ولم ينقصه سوى قائد عظيم قادر على إخراج أجمل ما فيهم من مهارات وصقل كفاءاتهم بالتفهم والعمل الجاد. كان الأب والأخ الذي قدم لهم ما يلزم من الثقة والحب وأعادوا له ذلك على الميدان، داعبوا الكرة بكل حب، وأقسموا على الربح من أجل وطنهم أولا ثم من أجل مدربهم. بفلسفته البسيطة ومبادئه الصلبة، خاطب “وليد” المغاربة بلغة يفهمونها وأشعل فتيل النخوة والشهامة في قلوب الجميع، خطاباته بلغته العربية المنكسرة ألهمت الكثيرين وتجاوزت حدود الكرة لتطأ جوانب أخرى في قلب المغربي.

السجود بعد الفوز والهزيمة، الرجوع إلى حضن الأمهات بعد كل إنجاز، نصرة قضية المسلمين بحمل علم فلسطين عقب كل انتصار، إرجاع فضل كل خطوة عظيمة إلى الله سبحانه، قراءة القرآن قبل بداية المباريات، التشبع بروح الوطنية الخالصة… قيم جعلت من المنتخب الوطني سفيرا لدينه ووطنه أمام الملايين، محترما لأسسه “الله، الوطن، الملك”. كان المغرب قويا باتكائه على دينه، عصيا، بتشبثه بمبادئه ومرعبا بإصراره. فبعد كل انتصار، نرى أرواحا لا أجسادا مفعمة بالحب والأمل. قدم المغرب درسا قويا، وأيقظ روح التحدي بشعوب آمنت سهوا بعجزها عن بلوغ العلا، وقبلت لوقت طويل بالمراتب الدنيا.

لشهر فقط، ترك المغربي مشاكله جانبا متجاهلا ما يعيشه من واقع وأزمات خانقة، بكى فرحا بفوز أبناء وطنه، ورفع رأسه عاليا، مفتخرا، هاتفا: “أنا مغربي”. رقص الصغار تحت مطر دجنبر، وقفز الكبار عاليا، تجاوز المريض علته ونسي الساخطون وضعهم. خرج القطري هناك في أزقة الدوحة، يوزع الحلوى عقب تأهل المغرب إلى أدوار متقدمة، حيا العربي كل من ارتدى القميص المغربي أو حمل العلم على أكتافه. تجاوزت الساحرة المستديرة حدود الفرجة والتسلية، لتوحد الصفوف تحت لواء واحد وتقدم صورة جديدة للعالم عمن أسمتهم دول العالم الثالث.

مونديال قطر 2022، سيظل راسخا في قلوب الجميع، وسيبقى ذكرى لطيفة تنقل من جيل لجيل لوقت طويل بكل فخر… مونديال بنسخة عربية، على أرض عربية وبحصان أسود عربي.

حتما، أن مشاكل المغربي لازلت تؤرق لياليه ولازال المغرب أمام جهاد طويل للسمو بباقي مجالاته، ولعله يحتاج إلى المزيد من أمثال ” الركراكي” ليقدموا الثقة والشجاعة للنهوض بهذا البلد… غير أن هذه الإكراهات لن تمنع الفرح والاعتزاز بما حققه المنتخب المغربي من خطوة كبيرة في تاريخ كرة القدم المغربية بل لعلها بادرة خير وفتيل أمل يكبر بداخل الجميع من أجل وطن أفضل.

شمس افريقيا أشرقت من مغربها، معلنة نهاية عصر من الاستعلاء والاحتقار، وبداية صفحة جديدة حيث سيكتب التاريخ بأقدام القارة السمراء ودول العرب. تاريخ ألقاب ممكنة وقريبة، تعيد خط المعايير من جديد وتجعل من المنافسة عالمية كما قدر لها أن تكون، وليست حكرا على قوم دون غيره.

شكرا لوليد على عيش الحلم، شكرا لجيل الأسود الشهم على المتعة الكروية والأخلاق العالية التي جسدتموها… شكرا لكل من جعل المغرب يفرح ملء قلبه ويحيي روح الانتماء التي اعتقدنا أنها ماتت فينا. شكرا مونديال قطر!