الخسارة مفهوم عميق ونسبي، إذ لا يمكن القول بأهمية الشيء الضائع أو الشخص المفقود إلا بعد معرفة مدى المساحة التي كان يشغرها هذا الأخير.
أحيانا نخشى أن نفقد الغير وبالتالي لن يكون مصيرنا سوى الوحدة والعزلة التامة عن محيط يغيب فيه القريب والحبيب والصديق، الأمر نفسه الذي نعيشه عندما نخرج مثلا للتجول لوحدنا في شارع ممتلئ عن آخره بالناس، هنا بالتحديد نستشعر المعنى الحقيقي لكلمة الوحدة لأننا، وببساطة، لا نملك قرينا بجانبنا نتبادل معه أطراف الحديث أو نخوض معه في رحلة الحكم وتحليل شخصيات الآخرين أو بما يسمى بالنميمة، إلا أنه في بعض الأحيان نكون مع شخص بل ومجموعات من الأشخاص بلا فائدة؛ إذ لا نشعر أن وطء الوحدة ينقص بل يتضاعف ويزداد، إذن من الواضح أن فقدان بعض الناس في حياتنا لا ينقص ولا يضيف شيئا.
عادة ما نربط الخسارة بأي إنسان يحيط بنا، ربما لأننا نظن أن كل من يبتسم لنا أو يرافقنا كل يوم يجب أن يحظى بمكانة في قلوبنا؛ هذا تماما ما يولد في داخلنا خيبة أمل كبيرة في نهاية كل سنة دراسية، لطالما تمنيت أن أبقى على تواصل مستمر مع جل من شاركتهم نفس الفصول الدراسية، نفس الأستاذ ونفس الشغف لمواصلة العام رغم كل التحديات والعراقيل، لكن للأسف، الكل ينهمك في مشاغله الحياتية وينسى أننا قد تقاسمنا يوما لحظات الفرح والمرح داخل نفس الفصل.
هذه كانت نبذة من تجربتي مع مجموعة كنت لا أعتبرهم فقط أصدقاء، بل جزءا لا يتجزأ من حياتي، لكن الحياة مختلفة عما كنت أظن، تأخذ أكثر مما تعطي… لم تطل مدة التفكير حتى أدركت أن الحياة ليست إلا عبارة عن محطات متتالية، عند كل واحدة تعلن نهاية رحلة وبداية أخرى، وأن الوقت لا يسعفنا…لطالما انزعجت لمجرد مغادرة شخص ما أو حتى تجاهله لي، بل وكنت أظن أن كل شيء توقف بخروج هذا الإنسان من حياتي، ولن أساير عقارب الساعة بعد الآن، لن أنكر أنني تألمت كثيرا رغم قوة شخصيتي وأسلوبي في التعامل مع الأشياء، حاولت أن أفهم كيف تسير الأمور، لكن بدون جدوى. لم تبق سوى الذكريات الجميلة التي تحتوي في داخلها خوفا من الضياع والتبخر كسابقتها.
خلاصة القول، النسيان ومواجهة الماضي هما السلاحان الوحيدان للقضاء على أوهام الفقدان، ومواجهة الحياة بالتفاؤل وروح التجديد. من جهتي، أصبحت أدرك أن الإنسان كعقرب الساعة يرحل كل مرة من محطة لأخرى حسب الظروف لأجل المواصلة، وها أنا الآن مقتنعة اقتناعا تاما أنني لا أملك حق منع الآخرين من المغادرة، بالإضافة أنني لن أبالي بعد الآن، إلا لفقدان أوفى الناس، ليسوا من نحب لأننا لا نحب دائما من يستحق، بل أولئك الذين أحبوننا وأخلصوا لهذا الحب، والذين سهروا على سعادتنا وراحتنا مهما كانت الظروف؛ فالخسارة تكمن في فقدان الأقرب للقلب وليس الأقرب مسافة.