نور الحياة وقرة الأعين

لا يمكن أن نجد أبدا شخصا لم يعانِ من ألم وحزن فراق شيء أو شخص ما، حتى الطفل الصغير أو الرضيع الذي يشعر هو الآخر بحرقة موجعة عندما يفارق ثدي أمه باعتباره مورد قوته وغذائه، لكن لا يوجد أصعب من فقدان وفراق الوالدين، فعندها يشعر الإنسان لا محالة باضطراب وتشنج خطير مؤلم على مستوى الجسم كله وحتى حياته يطغى عليها الحزن والكآبة. لم لا، فهما عماد الشخص وركيزته.

الأمر المحزن والذي يحز في قلوبنا هو رؤية أناس ينقمون هذه النعمة ويرمون بها إلى الشارع ولدور المسنين، بل وينسون أنهم جاءوا لهذه الأرض بسبب هذين المسكينين اللذان قدما الغالي والنفيس في سبيل توفير الرفاهية والعيش الكريم. إذن، ألم يحن الوقت أن يرجع هذا الموضوع، الذي يقبض أنفاسنا، إلى الواجهة؟ بعيدا عن تلك البرامج والأفلام والمسلسلات التي لا تعمل إلا على خلق شعور الشفقة تجاه هذه الفئة، بل وتزيد الطين بلة أحيانا عندما تكهرب العلاقة بين الآباء والأبناء باسم المراهقة تارة وباسم الاستقلالية والعصرنة تارة أخرى، ألم يحن الوقت بعد لدق ناقوس خطر يهدد فئة مهمة من المجتمع والتي أصبحت تنعت عادة بالشيوخ أو العجزة، كأن حياتهم قد انتهت؟

الوالدان هما الشمعتان اللتان تضيئان حياة كل فرد منا، فإذا انطفأت إحداهما أو كلتاهما خيمت العتمة على عالمنا وهيمن عليه الحزن والكآبة. بالإضافة إلى ذلك الفراغ الذي يهيمن على يوميات الشخص حتى مع حضور الآخرين في حياته. لا يمكن أن ننسى أبدا كم سهروا الليالي الطوال من أجل راحتنا، كما فارقوا أحلامهم لمعانقة أحلامنا، ضحوا بالمال والجهد والوقت في سبيل رسم البشاشة والبسمة على محيانا. لم لا؟ فهم السند والدعم اللامحدود.

أليس قوله تعالى: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ} [الإسراء: 23] دليلا قاطعا وجازما على وجوب طاعة هذين المخلوقين والإحسان إليهما في الكبر وعند قلة الحيلة؟ فالله سبحانه وتعالى لم يسند لنا رخصا تزيح المسؤولية على عاتقنا، أو تبرر محاولة التخلي عنهما، بل ونهى عز وجل عن هذا الفعل الشنيع حتى في حالة كفرهما أو حثهما على المعصية، بقوله تعالى {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ } [لقمان: 15]، الأمر الذي يبين أهميتهما البالغة والمكانة المرموقة التي يحظيان بها عند البارئ عز وجل.

مقالات مرتبطة

كل هذا يبين مدى تأثيرهما على حياة الشخص واستقراره. لن أنسى أبدا ولن تمحي من ذاكرتي صور أولئك الأشخاص المنتشرين على أرصفة وجوانب الشوارع، والحاجزين مقاعدهم في دور المسنين والعجزة. تلك الصور التي تختزل وتلخص كل مشاعر خيبة الأمل والألم والحزن الفظيع، بالإضافة إلى القهر المعنوي الذي يخيم على قلوبهم، والسبب ببساطة، أبناؤهم، الذين رموا بهم في أحضان الشارع دون شفقة ولا رحمة. أبناء نسوا أن الآباء هم تاج فوق رؤوسنا يجب الحفاظ عليه ما دمنا على قيد الحياة. أبناء انخرطوا في دوامة الحياة وأغفلوا عن سر وصولهم وبلوغهم مراتب ومراكز شغلتهم عن قرة الأعين، والتزامات جعلتهم يؤمنون دور العجزة على أغلى الناس في حياتهم. وآخرون اختاروا تأسيس عائلاتهم في غنى عن والديهم، كأنهما لا ينتمون لها.

“إن فعلت خيراً سيعود لك، وإن فعلت شرا سيعود لك، هذا هو القانون الأبدي العادل، فكن مستعداً له.” مقولة تجعلنا نستحضر الأهمية البالغة للتربية أمام تفشي هذه الظاهرة اللامعهودة في مجتمعنا. غياب التربية والمثل الصالح أسباب مباشرة جعلت من هذه الظاهرة أمرا مألوفا؛ أن سوء التربية أو التقصير فيها من قبل الآباء والمجتمع هو ما يجعل مثل هذه الظواهر تهيمن على مجتمعنا. يتضح إذن أن الحل الوحيد والأنسب للحد من هذه الظاهرة المأساوية هو إعادة النظر في جودة التربية المقدمة لأطفالنا وشبابنا، بالإضافة إلى التهيؤ لتقديم المثل الصالح لهم، لحصد الثمار الطيبة عند الكبر والعجز.

أمام الأهمية البالغة السالفة الذكر التي يشغلها الأبوان في حياة الإنسان لا يمكن إذن، أن نغفل عن تلك المحاولات التي تسعى إلى توجيه أصابع الاتهام لأحد الطرفين على حساب الآخر، ووجود مصادر إعلامية تصعد الصراع بين الوالدين وأبنائهم باسم محاولة الصلح وجمع الشتات، وهو الأمر المعكوس خلال عرض برامج مستوحاة من واقع آباء متخلى عنهم، فعوض محاولة الصلح وجمع الشتات، ينسبون السبب لأحد الطرفين، غالبا ما يكون الأبناء. أظن أنه من المفترض البحث عن سبب المشكل عموما ومحاولة حله عوض الغوص في إعماق الخلافات. إذ إنه من الأجدى تخصيص برامج توعوية، بهدف التحسيس بخطورة عقوق الوالدين والتخلي عنهما، وعرض قصص واقعية كمثال لحسن الرعاية والاعتناء بالآباء خاصة في مراحل عمرية متقدمة.

ختاما، في طاعة الوالدين ثمار الخير كلها، بداية برضا الخالق عز وجل، ونهاية بالبركة في الرزق والعمر والولد، الأمر الذي يدعونا للحرص على هذه العبادة النبيلة، وزرعها في أبنائنا منذ الصغر، فبرّنا لوالدينا أمامهم سيعلمهم هذه القيمة لا محالة باعتبارنا مثلهم الأعلى.

1xbet casino siteleri bahis siteleri