سوسيولوجيا الألم
هي لعبة اخترعتها ولا زلت أراها مفيدة. لكي تلعبها يكفيك ثلاثة شروط: أولها أن تكون محاصرا في مكان ما، وثانيها أن يكون لك مكان تجلس فيه، والشرط الأخير أن تتوفر على قدر من التواضع لكي ترى بأن وقتك لا يكتسي قيمة، أما اللعبة في حد ذاتها فهي أن تنظر إلى مكان معتاد كما لو كان غريبا عنك.
فاطمة المرنيسي
لم يعد هناك موقف خالٍ من فعل، وكل فعل يستحث على واقع ظاهر، كلا الموقفان يعبران عن صنع العقل الذي يتصرف فيه الإنسان واقعيا، ها أنا ذا أشعر برغبة كبيرة في الثبات بين ألم تذكر الذكريات وبين حياة فارغة من الإنسانية أكثر من ذي قبل، ها أنا ذا أستشعر طعم الإنسانية الحقيقي وكأني لم أحسه مجرد نشاط فكري عابر…بل كان أكثر من قسوة، وأكثر من سرعة تتغذى على تحليل، أكثر من إحساس وأبلغ من عمل، حتى أعقد من منهج يُعبر عن مآسٍ قضايا اجتماعية تدمج داخل ظلالها مجموعات وأفراد، إنها لحظة حاسمة تذوقت عبرها تجارب واعية أخلط فيها بين المتعة والمعاناة؛ إنني أعبر بقلمي هذا اليوم عن وجودي بالدقائق والساعات.
إن أهمية فهم الألم داخل الثقافة المغربية من منظور “سوسيولوجيا الألم Sociology of Pain” يعتمد المجال الأقرب لتفكيك ظواهر اجتماعية معقدة ومتعددة الأوجه، فالألم الجسدي أو النفسي أو غيره لا يعبر فقط عن مشكلة طبية أو بيولوجية لوحدها، بل يكون أقرب لمعالجة إدراكية لا يتم فيها اختيار الألم بمعزل عن الآخرين، بل يتشكل وسط سياقه الذي حدث فيه وهو ما أكده “موريس Morris” في كتابه “ثقافة الألم The Culture of Pain” كونه لم يكن يوما مجرد ظاهرة فسيولوجية وتشريحية، بل هي نتيجة التفاعل بين العقل والجسد والثقافة. مضيفا أن الألم يتم تشكيله وتقييمه وفق عناصر ثقافية محددة.”
وهي ذات التجربة التي عشتها بعدما توقفت جميع نشاطاتي إثرها، موت صغير دام أزيد من ثلاث أشهر بسبب حادثة سير كادت تكون مميتة، أشياء كثيرة عبرتها وبرعت في أن أجعلها جدية وواقعية ومسموعة لكل من لم تثره قبلا؛ والقصد يرمي بي مباشرة تذكر قول ”ايرك فروم Erich Fromm” حينما عبر عن شروط التغيير الإنساني بقوله: ”إن صحت فكرة المنقذ الوحيد لنا من كارثة سيكولوجية واقتصادية هو إحداث تغيير أساسي في الشخصية الإنسانية من النمط السائد، نمط التملك، إلى نمط الكينونة- إذا صحت هذه الفكرة الأولية فإن السؤال الذي يثار هو: هل في الإمكان، عمليا، إحداث تغيير في الشخصية الإنسانية على مقياس واسع؟ وإن كان ذلك ممكنا، فكيف يتم؟” والقصد هل يمكن تغيير فهم هذه الشخصية لكل من الوجع والحزن والعذاب؟
الأجدر أني ولأول مرة عرفت معنى ألم التوقف والانقطاع عن كل ما كان يقربني للعيش وسط الحياة، والدخول في غيبوبة لساعات دون تذكر مني لأي شيء، وغيرها من الأمور التي تعاش ولا يكفيني استفراغها كلاما، بل الأحق تسليط القول على الضعف والعجر الذي يمرر للفرد وصولا لحد التفكير في إن كان ما يشعر به ألما جسديا أم عقليا أم هو ألم اجتماعي معطى، الأمر الذي راودني كثيرا، ودفعني بالبحث والتعمق أكثر في كيف استطاع الآخرون عيش مثل هذه التجارب، بل قصدي كيف كانت ردة فعل باقي الأشخاص الذين مروا من نفس التجربة وماذا إن كانت جروحهم أبلغ ويستدعى النظر فيها؟
وعليه كان أقرب ما امتلكني طول هذه المدة هو التفكير في كل شيء وفقدان الرغبة في القيام بأي شيء، غير التقاط الأحداث الرائجة حولي آنذاك ومحاولة فهم الآلام التي لم أشهدها سابقا، أكيد أن ما يحدث بعد الصدمة بأشكلها المقلقة ‘‘Post traumatic” يتطلب وقتا لا تفصيل فيه حسب كمية الألم التي يعطيها كل واحد فينا لواقعته. وغير بعيد عن كل هذا، فإن اللحظة المميتة تجبرك لوحدها على الاستيقاظ وتهمس لك بصوت قوي بأن المكان الوحيد الممكن امتلاكه هو إيمانك بنفسك وقدراتك على الاستمرار والنهوض من جديد بدلا من الغوص في أسئلة لا أجوبة لها، خصوصا وأن المجتمع يعرف منا: من يتألم في صمت ومن يعبر جسده بدلا عنه في كل ألم متراكم عرفه، والعديد من الأمثلة الأخرى، بل منا من يزيد عمق جرحه على عدم توفر سند يقربه وفي الأمر يتذوق طعم الخذلان المر في عدم فهمهم لضغط الوضعية التي تمر منها، دون تجاوز مسألة التشكيك في النوع – بين النساء والرجال بوقع الألم كل واحد منهم درجات اختلافه – ويبقى البعض منهم ومنهن يبحث عن العيش بحرية وباحترام وسط الجميع، وهو ما لمحته من عتاب بعض الناس لي جراء عدم البقاء في المنزل مقابل نسيانهم، وتشجيعك على الاجتهادات والتضحيات التي كنت تنوي القيام بها جراء مشاريعك العلمية الصغيرة التي تشعرك بنوع من الانتماء الكبير وسط هذا العالم.
لربما هنالك مسألة الخير المرتبطة بخوف كل محب وقريب وسط العتاب، وبين من يراك متسرعا تنهض من مكانك قبل دعوتك أو طلبك، لكن بين هؤلاء وهؤلاء القليل من يحترف قيمة تكريمك على تجاوز كل لحظة كانت قاسية على قلبك، كل اللحظات التي عشتها لوحدك بصبر وشجاعة، ومنه فوق كل هذه الأحداث الكثيرة والكبيرة فهي تتطلب إقرار كرامة وذات وفية تتجدد نورا ونارا، كيف يتم الحكم بسرعة على شخص كان متمردا على التواصل الدائم وممارسة التعاطف مع الآخرين محاولا استشعار تجاربهم وفهمها، وكذا بين الانخراط في محادثات مع أشخاص مختلفين بغرض التقرب من رؤى جديدة تنبض بالحياة عامرة بالزوايا المعاكسة واللامتناهية، ولماذا نطلب كل هذا؟ ولِمَ نحتاج لمن يشعر بنا وبما نمر به؟ وكيف يكون الحدث المعاش وحيدا ونحن نطلب عبره التعايش بالمجموعات؟
هذه الأسئلة المبرمجة اعتبرتها كشكل من أشكال التعبير القوية، بل وأقرب للتواصل مع إنسانيتي الفردية، حتى أني خلالها بعد طول هذه المدة علمت جيدا أن التواصل مع الطبيعة والتدرب على اليقظة الذهنية هو ارتباط بالتواجد في اللحظة الحالية، أما الانخراط في التطوع ومساعدة الآخرين فهو الحدث الإيجابي الذي يُحدث تأثيرا على العالم، ومن تم، فإن تواجد الإذن بعبور المستعجل يرمي مبدئيا إلى ضرورة فهم العوامل الاجتماعية والثقافية التي تشكل تجارب الألم وكذا أقرب لمعرفة دور الأعراف والمعتقدات والقيم والمؤسسات في تشكيل كيفية فهم الألم ومعالجته بدلا من العتاب والموت فيه حيا لا سيما وأن الحياة بما فيها تظل مستمرة.
إنه حقا لأمر لا يمكن التطرق إليه بالتفصيل لكن يبقى ابتداء لقضية يمكن عبرها إلقاء لمحة أولى متقاسمة مع باقي من عاشوا تجاربهم في صمت وعناء، دون مساندة من الآخرين ولا حتى الشعور بهم أو بوضعياتهم الاجتماعية، ولا التفكير حتى في من توقفت الحياة عندهم بعد شعورهم بألم معين غير متقاسم، ولا يفوتني ذكر أن تجربة الألم كيفما كانت تتأثر بالمعتقدات الثقافية حول المرض والألم، والأهم كيف تعبر المعايير الاجتماعية المحيطة بنا عن كيف يمكننا تبيان ما يؤلمنا -فمن بين ما سمعته أنه كان يجب أن يكسر ساقي أو أفقد أحد أطرافي حتى أقول أني أعيش في ألم أما غير ذلك فهو ليس مقبول”؛ لكنهم لم يعلموا أنها المرة الأولى التي يعرف فيها جسدي أمرا مفزعا بهذا القدر أو اصطدم فيه بشيء مماثل، خصوصا أن طفولتي مدللة ولم أعرف فيها المعاقبة بالتخويف أو الضرب القاسي…، أو حتى سبق لي التعايش مع آثار جروحي الظاهرة لحدود اللحظة ”ما يؤكد أن الألم ظاهرة اجتماعية لا يتم توزيعها بالتساوي بين جميع الناس، بل الأمر مرتبط أكثر بعدد التجارب الفردية وكذا مدى امتداد معاناتهم التي عرفوها سابقا وإلى الفئات التي ينتمون إليها وغيرها من الأمور.
أما الوضع الثاني فيظل أقرب منطلق لمن أراد التعمق في مجال ”سوسيولوجيا الألم” وله سبيل الوصول به إلى مطارح كثيرة، هذا المجال الذي يفحص العواقب الاجتماعية والاقتصادية للألم، مثل تأثيرها على العلاقات وعلى العمل ومن تم أنظمة الرعاية الصحية التي بدورها تحتاج إلى نفس طويل واجتهاد حازم، فليس من السهل على أي كان تدارك ما سيتسبب في ألم إنسان أو ما سيدفع بنصف حياته إلى الهاوية من أجل الآخرين.
بت اليوم متيقنة بأنه إن أردت أن تكون إنسانيا فعليك أن تعرب عن خوفك على جسدك كاستلزام تذكيري كونه جزء لا يتجزأ من تجربتك الإنسانية المتقاسمة، فرغم أنه معبر مسموح للجميع إلا أن القليل متجاوزه، كما أن صور الاعتناء الأكثر ظهورا ما تكون سوى قسمات مجتمع نرتبط فيها مع باقي الذوات الأخرى حتى نشعر بالتحسن والأمان المرتقب، وعن نفسي قبلكم الانخراط في مساعي إبداعية من إنشاء فن وكتابة، رياضة…كأقرب معبر للشفاء والمساعدة الفردانية فليست الحاجة للآخر دائمة أو مضمونة وتحت هذا الركام الدافع بالتفكير في الاكتفاء بالذات والتعايش مع الألم لهو أمر يدعو للتساؤل، لا عمن نكون فقط، ولكن كيف يجب أن نكون ولمن؟
قد لا يزعجنا القول ولكن يؤلمنا القائل وقد لا يؤثر فينا الفعل ولكن يصدمنا الفاعل.
جبران خليل جبران