قراءة في رواية علاقات خطرة لبيير كوديرلوس دو لاكلو
لم أستطع أن أقاوم إغراء هذه الرواية فوقعت في حبها، رواية تدور حكايتها عن الإغواء وعن الحب بكل أصنافه وتقلباته، كان لا بد من الوقوع في حبها، فجعلتها تتربع على عرش الروايات المفضلة لدي. وعندما تسمع أندريه مالرو يقول عنها: “باختصار.. علاقات خطرة أسطورة” تعرف بحق أنك أمام أسطورة من القرن الثامن عشر لم يزدها قدمها إلا عراقة ورونقا لا يقاومان، وتعرف أيضا لِمَ تصنف ضمن أفضل مائة رواية على مر التاريخ.
جمعت هذه الرواية بين الأضداد، بين البراءة والدناءة، بين الطهر والخبث، بين الحب والكراهية، بين الموت والحياة، في معركة ضارية تتفرج عليها وأنت مشدوه لا تستطيع أن تحسم أمرك وتصطف إلى جانب من، ويكون حالك كحال البطل نفسه في الرواية – الكونت دوفالمون- إذ يقول: “دعي لي على الأقل الوقت الكافي لكي أراقب هذه المعارك المؤثرة بين الحب والفضيلة.” لكن صدقني، لن تجد الوقت الكافي في خضم كل تلك الأحداث وفي وسط تلك الكمية من المشاعر المتضاربة التي تصدمك بها الشخصيات أثناء تطورها، هذه الشخصيات التي ليست وهمية من صنع خيال الراوي، بل شخصيات حقيقة، فالرواية مقتبسة عن قصة حقيقية والرسائل المكونة لها رسائل حقيقية أيضا وُجدت في بيت عائلة فرنسية ورثوها من ضمن ما ورثوه.
جاءت الرواية في حوالي خمسمائة صفحة، تضم خمسا وسبعين ومائة رسالة. تحكي قصة تحدي بين رجل زير نساء يدعى الكونت دوفالمون وامرأة تدعى المركيزة دي ميرتاي، التحدي هو ببساطة محاولة الكونت الفوز بقلب امرأة أخرى تدعى الرئيسة دي تروفيل، وسيحاول التغلب على كل العقبات في سبيل الفوز بذلك الحب، لا لشيء فقط ليظهر “للمجتمع الباريسي” الراقي بأنه لا توجد امرأة تستطيع مقاومة إغرائه، وتعده المركيزة دي ميرتاي في حالة فوزه بتلك المرأة بجائزة، ولكن تتداخل المصالح والمشاعر وتتحول الصداقة إلى عداوة والحب إلى كره وتسيطر الغيرة والغضب والرغبة في الانتقام فتأخذ الأحداث مسارا مختلفا عما كان مخططا له. سيفوز الكونت دوفالمون بقلب ضحيته بعد مقاومة ليست بالطويلة، كما قدر هو نفسه، لكن الأحداث تأخذ مجرى آخر ويخرج الجميع خاسرا من ذلك التحدي، تموت الرئيسة دي تروفيل كمدا بعد أن تخلى عنها الكونت دوفالمون بتوصية من المركيزة دي ميرتاي، وسيكون هو نفسه قد قُـتل قبلها بوقت قصير في مبارزة مع أحد الفرسان شعر بالغدر وأراد الثأر لنفسه، وتخسر المركيزة دي ميرتاي كل شيء وتصاب بالمرض في أخر أيامها. نهاية تراجيدية جعلت من الرواية لوحة سريالية لا تقاوم.. تقرؤها فتنغمس فيها وتتمنى ألا تنتهي.
وتلخص لنا المركيزة دي ميرتاي كل شيء عن هذه المغامرة بقولها: “صدقني أيها الفيكونت، حين توجه امرأة ضربة لقلب امرأة أخرى فمن النادر أن تخطئ المكان الحساس، وتكون الضربة قاتلة.. وحين كنت أضرب هذه الضربة، لم أنس أن هذه المرأة هي غريمتي، وكنتَ قد فضلتها عليّ في أحد الأوقات”. النتيجة: لا أحد يخرج من “علاقات خطرة” سالما معافى، وصراع القلوب هو كصراع العروش تماما.. إما النصر أو الموت.
في هذا الصراع العاطفي الأزلي بين الرجل الذي يمثله في الرواية الكونت دوفالمون وبين المرأة التي مثلتها المركيزة دي ميرتاي خير تمثيل، نلاحظ جليا كيف يستخدم كل طرف وسائله الخاصة للسيطرة على الطرف الآخر وإبقائه تحت سطوته ويعلن فوزه على جنس بكامله. تقول المركيزة دي ميرتاي على هذا الصراع: “أفلا يجدر بك أن تستنتج إذن أنني ولدت لكي أثأر لجنسي وأسيطر على جنسكم، وقد عرفت أن أبتكر لنفسي وسائل مجهولة حتى من نفسي؟ آه احتفظ بنصائحك ومخاوفك لأولئك النساء المنتشيات.. نساء لا يفكرن أبدا، لذلك يختلط عليهن الأمر باستمرار بين العشق والعاشق”. وتتدخل امرأة أخرى حكيمة لتبين لنا الفارق الكبير بين الرغبة عند الرجل والرغبة عند المرأة، “فالرجل يتمتع بالسعادة التي يشعر بها، والمرأة بالسعادة التي تُـحدثها، إن الفرق مهم جدا وغير ملحوظ، إذ إن متعة هؤلاء هي في إرضاء شهوتهم، أما متعة النساء فهي في إثارة تلك الشهوة، ونيل الإعجاب عند الرجل ليس سوى طريق للنجاح لديه، بينما يعتبر نيل الإعجاب لدى المرأة هو النجاح بعينه”. وتتساءل المركيزة: “ألم تلاحظ حتى الآن إذا أن اللذة، التي هي بالفعل الدافع الوحيد لاتحاد جنسين، لا تكفي لقيام علاقة بينهما؟”.
وصدقني -عزيزي القارئ- ما إن تُنهي هذه الرواية، حتى تخرج منها بغير ما دخلت به من حمولة، وتتغير نظرتك للحب وللكراهية وللغيرة والغضب والانتقام وكل المشاعر والعواطف البشرية الضرورية لإقامة علاقات اجتماعية بل للعيش حتى، وتجعلك هذه الرواية عبر تداخل شخصياتها وتضارب مصالحها تقر بأن النفوس البشرية هي أعقد مما نتخيل، وأن “الحب والكراهية.. كلاهما ينام تحت سقف واحد” وأنت عليك دائما أن تختار.
لقد أحدثت هذه الرواية عند صدورها أول الأمر ضجة كبيرة في الأوساط الفرنسية، ومنعت في بدايتها تارة بحجة أنها رواية “خليعة” وتارة بحجة أنها تسيء لتاريخ ولنبلاء فرنسا، ومنع أيضا الفيلم الذي اقتبس عنها، وبهذا نجد أن للرواية أبعاد أخرى غير التي قد نقرؤها على صفحاتها وبين دفتيها، لكن الثابت أنها تحفة أدبية خالدة، تبقى دستور العلاقات العاطفية.. تلك العلاقات التي قد ننجرف إليها بحماسة، مدفوعون بعواطفنا الجياشة وبرغبتنا في الوقوع في الحب، ذلك الوقوع الذي قد يكون حقيقيا فنسقط في “علاقات خطرة” لا قاع لها.