عالمَك الخاص.. سِرُّ نجاتك

أصبح العمر سريع يا صديقي! أرَأيت كيف أصبحت الوتيرة التي تمرّ وتجري بها الأيام في هذه الآونة الأخيرة دون أن نشعر بها؟ فكلما تقدّمَ بنا العمر، أصبحت وتيرته سريعة مقارنة مع فترة الطفولة التي كانت أيّامها تمر علينا ثقيلة.. لقد بدأنا نفقد إحساسنا بالأيام والأسابيع وكذا الشهور، فلا يكاد يبدأ الشهر إلا وقد شارف على الانتهاء، بل يمكن القول إنّ الناس يتفاوتون في هذا الإحساس بناءََ على نسبة الانشغال بالدراسة والعمل، وقدرة بعضنا على التنظيم الجيد للوقت وحسن استغلاله فيما يرجع على الإنسان بالنفع، وذلك راجع إلى ترتيب الأولويات حسب أهميتها، ونظرََا لكثرة المسؤوليات والواجبات التي أغرق الإنسان فيها نفسه، وجب عليه تقديم الأكثر أهمية، ثم المهم وفي الأخير الأقل أهمية.. ورغم كل هذا، يبقى الشعور العام بأنه يمرُّ سريعََا، فالعمر أصبح سريعََا يا صديقي، أليس كذلك؟

لقد كبرنا بهدوء، لدرجة أصبحنا نحبُّ الاختلاء بأنفسنا، ولا نريد التعرف على أصدقاء جدد.. كبرنا وأصبحنا نبحث عن الأماكن البعيدة الهادئة، كالمقاهي الفارغة والمناطق الطبيعية الخلابة.. بعيدََا عن التجمّعات التي لا فائدة منها وضوضاء المدن وصخب الحاضرين المتطفلين، كلّ هذا لكي نختلي بأنفسنا قدر المستطاع ولو لمدّة قصيرة، فما عاد يسعدنا الحصول على الأشياء وامتلاكها، ولا يغرينا بريق الكلمات الرنّانَة التي تحاك على مسامعنا، فالدنيا أصبحت تحكمها المظاهر بنسبة كبيرة.. وكلما تقدَّمَ بنا العمر أدركنا أن المظاهر خدّاعة، وأنه ليس كلّ ما يلمع ذهبا، وحبل الكذب قصير جدََا.

فماذا عسانا نفعل في هذا الواقع المعاصر الذي أضحت أغلب ميادينه ومجالاته متصدرةََ بالأغبياء الحمقى والتافهين..
ما أحوجنا في هذا العصر المليء بالمختلّين وأشباه المؤثرين، إلى الاختلاء بأنفسنا وممارسة هواياتنا المفضّلة بعيدََا عن أفكار الناس المحيطة بنا وأمورهم الشخصية.

لقد صدق ‏علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين قال : “يأتي عليك زمان لا تجد فيه سرور نفسك إِلا في اعتزال الناس”. هنا يمكنني أن أقول إنَّ الإنسان مغرم بالهدوء والسكينة بالفطرة، ذاك الهدوء الذي يعتريه عندما يكون لوحده في عالمه الخاص الذي يحميه من فضول الآخرين وتَطفُّلهم الذي لا فائدة منه، لقد وصلنا إلى مرحلة لم نعد قادرين على مجادلة الآخرين والتحاور  معهم حتى وإن كُنّا على صواب، نترك الأمر للأيام حتى تثبت صحة وِجْهَة نظرنا.. كبرنا وأدركنا أن كل ثانية نضيعها في إقناع الآخرين أنّنَا على حق، وأننا بريئون، ونِيَّتنا صادقة، نهدرُ بها طاقة بلا فائدة ووقتََا ثمينََا لن يعُودَ إلينا أبدََا..

فالإنسان دائما ما يحتاج لفترة من العزلة كيفما كانت مدتها ومكانها، ولجلسة نفسية استثنائيّةٍ مع ذاته، لكي يشعر بالراحة والسلامة النفسية في حياته، يجب عليه أن ينشغل بنفسه، بأفكاره، بأهدافه، بأحلامه، بمعنى أن يكون وقته ضيّق لكي لا يجد فجوة للتفتيش وراء أفكار الآخرين وأمورهم، فراحتكَ النفسية مقرونة بمدى اهتمامك بنفسك وانشغالك بما يعودُ عليك بالنفع على المدى القصير والبعيد.. ففي الوقت الحالي يعتبر الانسحاب من الفوضى وضجيج الحياة ومتاعبها.. راحةٌ لا تُقدّر بثَمن..!

إن ما يستحبُّ أن يقوم به المرء في حياته، بالموازاة مع دراسته أو عمله أو أيٍّ كان، أن يجعل لنفسه ولِذَاته دائرة تتعلق بهِ لوحده كيفما كانت نوعيتها ومحيطها وزمانها، لِنُعيد تَرتيب بَعضَ أو مُعظم ما قد بعثرته الأيام ومواقفها، والذي سيؤدي حتما إلى الحصول على روحٍ صافية ونفس سليمة سوية ومزاج معتدل.. دون الخوض في صراع ومعارك مع الأمراض النفسية التي قد تؤدي به إلى الهاوية بشكل مخيف.

مقالات مرتبطة

إنّ انشغالك بنفسك، وملاحقة شغفك وطموحك كل وقتٍ وحين، ومشاهدة نموّك المعرفي وازدهار أفكارك واستقرارك النفسي وتتبع تطوّر مهاراتك الذاتية.. كل هاته الأمور ماهي إلا نِعَمُ عظيمة لا يمكن تحقيقها والحصول عليها إلا في البعد عن الآخرين في غالب الأحيان وعدم التطفّل والدخول في شؤونهم وقراءة نواياهم التي لن تنفعك بشيء..
فأنا مثلا أصبحت أجلس أحياناً بهدوء وثبات، أفكر ومتأملا في مسار مجرى حياتي، فتأتيني الأفكارََ تباعاََ منها الأفكار القديمة والجديدة غير المعهودة، وأخرى يتخلّلُها نوع من الحماقة والمغامرات الجريئة لاكتشاف حياة جديدة والخروج من الروتين اليومي وتراكمات الحياة الدراسية والعملية والمهنية… فهذا لا يمكن أن يحقّقه المرء إلا في حالة البعد والاختلاء بالنفس بعيدََا عن المجتمع من حين إلى آخر…

إنَّ الخلوة بالنفس في بعض الأحيان من أجل استعادة الشغف بالحياة ومواصلة رحلاتنا على هذا الكوكب المليء بكل أنواع التوتر والاضطرابات منذ بداية الصباح إلى أواخر الليل.. هي أن نأخذ ونستقطع من أوقاتنا أوقاتاً أخرى قصيرة وبسيطة، نخلق فيها لأنفسنا مساحات أكثر خصوصية في المكان والزمان لإستعادة التوازن النفسي الذي ننشده لتبديد الطاقة السلبية وما علق بنا من هموم ومشاغل الحياة التي لا تنتهي مهما انشغلنا بها على طول الأيام والشهور أو حتى طول السنين..

حسب رأيي وكلي يقين أن الخلوة مع النفس ما هي إلا دعوة لتأمّل العالم والحياة ومراقبة النفس وإعادة النظر في العلاقات مع الناس في المحيط الأسري والاجتماعي، وبهذا تتمّ غربلة النفس من كل ما علق بها من شوائب الحياة الدنيا، والحصول على نفس نقية، وذهن صافي خال من الشوائب.. إذن يمكن القول أن قرار خلوة الإنسان بنفسه من أجل أن يشحنها ويزوُّدُها بالطاقة الإيجابية التي من شأنها تحفيز الاستعدادات النفسية والجسدية لمواصلة مشوار الحياة الطويل لتحقيق تطلّعاتنا وأحلامنا المشروعة التي نرسمها في مخيلتنا منذ نعومة أظافرنا، من أفضل القرارات وأكثرها صواباً، بل إنّنَا قد نظلم أنفسنا ونضيّعُ ذواتنا إذا لم نتّخذ تلك الخطوة منذ وقت بعيد..

وفي نفس السياق، ولكي لا نقطع علاقتنا بأقاربنا وأصدقائنا كليََا وكذا المجتمع، فمن الواجب على المرء أن يختار الأفضل لقلبه دائماً، فإن كان البعد على الناس راحة للقلب والفكر فليبتعد دون تفكير وتردّد، وإن كان في التخلي خير له فليتخلى حسب إحتياجاته ويعطي لكل ذي حق حقه.. ففكرة البعد والتخلي، ستكون صعبة في البداية وغير مُستحبَّة، وستشعر أنك بقيت لوحدك دون كتف تستند عليه!. ولكن في نهاية المطاف ومع مرور الوقت ستدرك أنك اتّخذت القرار الصحيح، وتتمنى لو أنك سلكت هذه الطريق منذ البداية…

فأصعب وأسوأ شيء قد يمرّ به المرء خلال حياته هو إصراره وصبره على أمور تستنزف طاقته يوما بعد يوم دون أن يدرك الحالة المزرية التي وصل إليها، أن تحارب من أجل وهْم فقط دون نتيجة ملموسة.. كل هذا وأنت تتظاهر بالثبات والسعادة وِفْق ما تبديه للاخرين من تصرف وتعامل جميل وحكيم.. فأغلب من ينشر رسائل الأمل والتفاؤل هم أكثر الناس ألمََا وحزنا وتعاسة من الداخل، دون أن يدرك من هم حوله بما هو فيه. فلا يخدعك قولهم!. فَهُم يفعلون ذلك لأنهم أدركوا صعوبة أن يكون الإنسان مجرد كومة قش مهترئة بها إبرة أو إبر تنخر دواخله كلما تمنى أن ينفلت من هذا الوضع.. إنهم منهزمون شبه منتصرين، دون أن يذوقوا للسعادة طعمََا، منتصرين بلا شيء ولا غنائم.. منتصرين بأغلال القدر!.

فعلاقة بما سبق وفي حياتنا كلها، لا أحد يعلم ويعرف حجم الصراع الذي يعاني منه الفرد، لحظة خروجه من المسار الذي يرسمه العقل الجمعي أو مايسمى بنظرية القطيع، لِيَسلك سبيله وحده في دروب هذا العالم الصّعبة والضيقة، وينجز ما تمليه عليه قرارته وأفكاره المستقلة داخل عالمه الخاص المليء بكل ما يحب ويتمنّاه..
يقول الله سبحانه وتعالى : {قَالَ كَذَٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا}، سورة مريم الآية 9. فلا شيء أعظم من اليقين أن اللّه بعظمته يرى قاعنا الضيق المظلم وما عشناه من تضحية، فيملأ اللّه هذا الفراغ بنوره بعد إيماننا ويقيننا بأنه وحده سبحانه وتعالى القادر على انتشالنا من أحزاننا وضعفنا، فهو يدرك نواياك وغاياتك وما تتمناه، وحده يعلم بحاجتك وضيقك، فلا تقلق وتتذمّر، فلا شيء يضيع عنده، فصبر جميل والله المستعان..

فأنت، أنت أيها الإنسان الضعيف المسكين، ستعيش مرّة واحدة في هذه الحياة القصيرة الفانية، فإذا كان بإمكانك تقديم أي إحسان لأي مخلوق فلتقدمه وتفعله الآن، قبل أن تفارق الحياة.. ومع كل هذا لست ملزم ومجبر بأن تسعد الجميع على حساب راحتك، ولكنّ الأهم حاول أن لا تؤذي أحداً، وكن لنفسك كل شيء، وإن كنت قادرا على أن تكون بلسمََا وشفاءََ لشخص أو لأشخاص فلتكن كذلك..