أحمد أمين: من عقدة النظر إلى متعة النصر

مما جرت به سنة الكون في عظمائها، أنهم يخرجون معادنهم النفيسة للوجود من المعاناة والمآسي التي يلقونها في حياتهم، فقليل هم الذين لا تعترض لهم هذه المآسي، ولكن كما يقال: ’’كل ذي عاهة جبار‘‘، هنا سنقف مع أديب وفقيه ومؤرخ كبير الدكتور أحمد أمين، هذا الرجل ذاق في حياته الكثير من الويلات، وأخرج لنا ما عنده من الإنتاجات في رحم المعاناة التي عاشها.

من أبرز وأقسى ما عاشه من معاناة في حياته ضعف بصره الذي كون لديه عقدة، وقد ورثه من أمه التي كانت ضعيفة البصر أيضا، فحالت بينه وبين كثير من الإنجازات في حياته، لكن تبقى قوة هؤلاء الرجال في مقاومة الحياة بكل صنوفها خارقة، وهو القائل في مذكراته: ’’قد ينتج أعظم خير من أعظم شر كما ينتج أعظم شر من أعظم خير.‘‘، فتميزت حياته بالمثابرة والتحديات، واستطاع برغبة جامحة أن يتجاوزها، وإن كان لها من التأثير العميق في نفسه الكثير، لكن تلك العقدة ينتج عنها عالم عظيم وأديب كبير لا يشق له غبار، وبتوالي الإنجازات والنجاحات استطاع أن ينسى ذلك كله، لقد قال في هذا: ’’الزمن بلسم الهموم‘‘، أي أن الزمن كان كفيلا بعلاج تلك العقدة.

كان من العادات التي سارت عليها المدارس والمؤسسات المصرية في القرن العشرين، مع وجود المستعمر الإنجليزي في ترابها، وتأثر المؤسسات والمدارس بالتدابير المتخذة في دولة الإنجليز، أنها جعلت الكشف على النظر من الشروط التي تسمح لك بالولوج إلى مؤسسة أو مدرسة أو حتى وظيفة معينة إلا ما ندر، من هنا تبدأ رحلة معاناة الدكتور أحمد أمين مع عقدة ضعف البصر.

كان حلمه بعد ولوجه للدراسة بالأزهر وتفوقه على زملائه فيه، أن يلج مدرسة نظامية تسمى مدرسة العلوم، قال: ’’حلمت إذ ذاك بمدرسة نظامية واضحة الحدود واضحة المعالم مفهومة الغاية‘‘، وقد رأى في نفسه أنه استوفى الشروط العلمية لدخولها ’’ورأيت الأمر سهلا عليّ‘‘، ولكن، تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فاصطدم مع الكشف الطبي للنظر وهو قصير النظر، ووصف ذلك قائلا: ’’ولكن قبل الامتحان، لا بد من الكشف الطبي وأنا قصير النظر، هذه هي العقدة‘‘، فحز ذلك في نفسه، لأن أقرانه ينجحون وهو لا ينجح، فرجع إلى الأزهر.

مقالات مرتبطة

وجاءت الفرصة الثانية، إعلان عن الدخول لمدرسة القضاء وشروط القبول ومواد الامتحان، وتذكر تلك العقدة التي تراوده دائما، فقال: ’’وكانت خشيتي من الكشف الطبي أكبر من خشيتي من الامتحان، فأخوف ما أخافه أن تتكرر المأساة التي حدثت لي عندما تقدمت لدار العلوم‘‘، والخوف وما أدراك ما الخوف، ومع ذلك حاول أن يستعمل بعضا من الدهاء، فقام بحيلة للحصول على اللوحة التي يستعملها الطبيب في الكشف عن النظر فحفظ السطور مرتبة، ولكن خاب ظنه، لما أشار الطبيب إلى علامة في السطر الرابع فسأله، أهي الأولى أم الثانية، فقال هي الموضوع عليها العصا، ولم ير العصا بوضوح فقال: ’’فسقطت في الامتحان، ويئست من المدرسة.‘‘

ولكن، حدث الاستثناء هذه المرة، وشاءت الأقدار أن تكون حليفته، فقد رأى ناظر المدرسة كثرة الراسبين في امتحان كشف النظر، وكان الدكتور أحمد أمين من المتفوقين في امتحان المواد المقررة، فشفع له ذلك أن يكون من الناجحين للولوج لمدرسة القضاء، وذلك بعد جهد كبير، حتى وصل به الأمر إلى استعمال الحيل وحفظ بطاقة الكشف، هنا تظهر لنا أهمية الهمة، وعدم اليأس، وإعادة المحاولات مرات عدة، حتى يأتي الفرج، كما قال: ’’ومن فكر في العواقب لم يتشجع‘‘، فكان شعوره لا يوصف، فرح فرحاً شديداً، وكان همه أن ينفتح عن علوم ونظام جديد قائلا: ’’كما فرحت مرة ثانية لأني سأدرس علوماً منظمة في مدرسة منظمة، أسأل فيها عما أفعل، وأحاسب على الجد والكسل، لا كما كان الشأن في الأزهر.‘‘

 

وفي يوم من الأيام، وبعد حصوله على المعاش، وهو عاكف على القراءة، والكتابة، والدرس، والتحصيل والإنتاج، إذا به يرى نقطة سوداء على منظاره، فظنها نقطة ماء سقطت عليها، فذهب ليكشف على عينيه عند الطبيب، فتبين الأمر أنه انفصال الشبكة، وأنه لا دواء غير إجراء عملية جراحية تحتاج إلى شهر أو شهرين، فكانت حسرته على هذا الأمر غير حسرة الناس جميعا إذا ألم بهم مرض، فوصف مشاعره بعد سماعه للطبيب: ’’اضطربت لهذا النبأ وأحسست خطورة الموقف، وأكبر ما جال في نفسي شعوري بحرماني من القراءة والكتابة مدى طويلا، أنا الذي اعتاد أن تكون قراءته وكتابته مسلاته الوحيدة‘‘، هكذا هو شعور العظماء الكبار، الذين يجعلون العلم والمعرفة همهم الأكبر، وتسلياتهم الوحيدة، وهكذا يتحدث أيضا عن أحاسيسه وهو بين كتبه في مكتبته الخاصة قائلا: ’’وأدخل المكتبة لذكرى فيزيد ألمي، وغذاء شهي وجوع مفرط، وقد حيل بين الجائع وغذائه.‘‘

هكذا علينا أن نقتدي بمثل هؤلاء الناجحين، مع ما يعانونه من مآسٍ، وما يلقونه من حواجز تحول بينهم وبين مساعيهم، ولكن بالإرادة القوية والعزيمة الحديدية، يمكن التغلب على كل شيء مهما بلغت شدته، والدكتور أحمد أمين خير مثال وأفضل قدوة في هذا الباب، فهو لم يفقد شيئا عاديا، ولكن فقد البصر، النور الذي يرى به العالم بأكمله، فحاز ما لم يحزه كثير ممن يملك بصرا قويا، بل لشدة تفاؤله اعتبر قصر النظر من النعم الكبيرة مقارنة بالعمى، قائلا في ذلك: ’’النظر القصير نعمة كبيرة إذا قارنت بينه وبين العمى.‘‘

أختم بمقالة له في كتابه حياتي، متحدثا عن محنته في فقده بصره: ’’أن خير هبة يهبها الله للإنسان مزاج هادئ مطمئن، لا يعبأ كثيرا بالكوارث، ويتقبلها في ثبات ويخلد إلى أن الدنيا ألم وسرور، ووجدان وفقدان، وموت وحياة، فهو يتناولها كما هي على حقيقتها من غير جزع؛ ثم صبر جميل على الشدائد يستقبل به الأحداث في جأش ثابت.‘‘

1xbet casino siteleri bahis siteleri