صالون مي زيادة الأدبي؛ إبداع وريادة

تعتبر الصالونات الأدبية منبع الثقافة ونشر وعي الحوار والنقاش المثمر والبنّاء، ومأدبة علمية يُلقى فيها الضوء على الإنتاجات الفكرية والأدبية والثقافية، وساحة إعلامية يُعرّف فيها الأدباء والمفكرون والمثقفون عن أفكارهم ومعتقداتهم الفكرية، وكلمة صالون في الاصطلاح المتداول تعني المكان الذي يستقبل فيه أهل البيت زوارهم، وبتعريب هذه الكلمة تعني ندوة أو منتدى.

وقد عرفت الثقافة العربية منتديات كثيرة من عصر الجاهلية إلى عصرنا هذا وظهور ما يسمى بالصالونات الأدبية، فالشعراء قديما كانوا في المنتديات والأسواق وعند الخلفاء والملوك يتزاحمون لإنشاد قصائدهم أو تقييمها، أما الصالونات فقد عرفت في أوروبا في القرن السابع عشر وانتشرت فيما بعد في العالم انتشارا واسعا، وكان للمرأة في هذه المنتديات والصالونات حظ منذ عهود قديمة، ففي الأندلس مثلا كانت هناك منتديات للنساء، أبرزها منتدى ”ولادة بنت المستكفي” في قرطبة زمن ملوك الطوائف في القرن الحادي عشر الميلادي، ومن خلاله نشأت علاقة الحب الشهيرة بين ولادة وأبي الوليد بن زيدون الشاعر الأندلسي الشهير، الذي نظم فيها نونيته المشهورة التي مطلعها:

أضحى التنائي بديلا من تدانينا *** وناب عن طيب لقيانا تجافينا

وكذلك منتدى ”حفصة الركونية” في غرناطة في القرن الثاني عشر الميلادي، وعرفت مصر في العقد الأخير من القرن الماضي صالون ”نازلي فاضل” الأميرة بنت الأمير مصطفى فاضل وكان محبا للثقافة والأدب، وفي قصر الأميرة عقد هذا الصالون الذي يعتبر من أوائل الصالونات العصرية في العالم العربي، وكان من رواده الشيخ محمد عبده والزعيم سعد زغلول وقاسم أمين وغيرهم من المهتمين بقضايا الإصلاح الاجتماعي والتطور السياسي، وغيرها من المنتديات والصالونات النسائية التي كانت فيها الرياسة في النقاش والحوار لهن، وكان للرجال فيها دور المشاركة والإغناء، وهناك الكثير ممن حملن مشعل الثقافة وكان ذلك سببا لتحفل بذكرهن كتب التاريخ والأدب، بل لم تتسرب لمجالسهن شكوك أو ريب أو تصل إليها الوساوس؛ لأن الاجتماع فيها للمحادثة والمذاكرة والمناظرة.

ولهذه السياقات التاريخية في سيرورة المنتديات والصالونات الفكرية، نرى تأثر بعض المثقفين بهذه الظاهرة الثقافية وخاصة في صفوف النساء المثقفات على قلتهن في القرن العشرين، من أبرزهن الفتاة الشابة القادمة من لبنان والمعروفة بمي زيادة وهي من مواليد فلسطين من أب لبناني وأم فلسطينية، وانتهى بهم المطاف في العيش بمصر، والاسم الحقيقي لمي هو ”ماري زيادة” ولكن عرفت في صفوف المثقفين ب ”مي زيادة”، وكانت الوحيدة في عصرها التي كان لها السبق في تحرير فكرها وحياتها من أسلوب الحياة السائد بين النساء في ذلك الوقت بمصر، وهذا راجع إلى نشأتها في الأوساط المارونية ذات الثقافة الأوروبية، وبهذا حصل لها تأثر بالتجربة الشهيرة في مطلع النهضة الأوربية والصالونات الفكرية بأوروبا والندوات المهتمة بالتراث العالمي، وكانت لها ميزة إتقان عدة لغات أجنبية، وأيضا إيحاء من أستاذها أحمد لطفي السيد الذي كان من أهم الذين تأثرت بهم مي، وتتلمذت على أفكارهم وخضعت لنصائحهم، ما جعل فكرة الصالون الأدبي تنضج في مخيلتها، فتأخذ بزمام أمورها لتشرع في تأسيسه وتعطي إشارة انطلاقته.

كانت بداية انعقاد صالون مي الأدبي في شهر ماي 1913م، وكان إعلان الانطلاقة الفعلية له في 24 أبريل 1913م عند وقوفها خطيبة لأول مرة في بهو الجامعة المصرية، لإلقاء كلمة الشاعر جبران خليل جبران نيابة عنه في تكريم الشاعر خليل مطران، وذلك بمناسبة الإنعام عليه بوسام رفيع، وبعد أن ألقت الخطبة على جمهور الحاضرين، تلتها كلمة لتحية المحتفى، وفي نهاية الكلمة وجهت الدعوة لعقد صالون أدبي في بيتها، ليكون ليوم الاثنين من كل أسبوع شرف عقد هذا الصالون الأدبي، فكان في بداية الأمر يعقد في بيتها بمسكنها في شارع عدلي بوسط القاهرة وكان يحمل اسم ”شارع المغربي” لينتقل مقره بعد ذلك إلى إحدى عمارات جريدة الأهرام، واستمر حتى نهاية الثلاثينيات، وفيه استقطبت كبار المفكرين والكتاب والشعراء، ونوعيات مختلفة من علية القوم والأثرياء والأدباء المعدومين كذلك، ليتحقق بذلك العدل في الحاضرين، وكان الصالون رحبا فسيحا، أمّا أثاثه فاختارته بنفسها، ليكون كما تتصوره وعلى ذوقها الرّفيع، وعلّقت في صدر الصالون أبيات للإمام الشافعي:

إذا شئت أن تحيا سليمـــــا من الأذى *** وعيشك موفور وعرضك صينُ
لـسانك لا تذكر به عورة امــرئ *** فكلك عورات وللناس ألسنُ
وعينك إن أبدت إليك معايبـــا *** فصنها وقل ياعين للناس أعين
وعاشر بمعروف، وسامح من اعتدى *** وفارق، ولكن بالتي هي أحسن

وتعبّر هذه الأبيات عن معان بليغة ودلالات عميقة، جعلتها بمثابة أرضية لصالونها، ليسمو فيه الاحترام المتبادل، والأخلاق الرفيعة في النقاش والمناظرة، والمخاصمة بالتي هي أحسن، ويمكن توصيفها بدستور للصالون.

ولتكتمل أركان الصالون، فهي تقدم لضيوفها شراب الورود أو القهوة على الطريقة المشرقية، وكان لها مجلس في صدر الصالون ترحب من خلاله بضيوفها، يحوم حولها رواد الندوة منهم: إسماعيل صبري، منصور فهمي، ولي الدين يكن، أحمد لطفي السيد، أحمد زكي، رشيد رضا، محيي الدين رضا، مصطفى عبد الرزاق، الأمير مصطفى الشهابي، الفريق أمين معلوف، الدكتور يعقوب صروف، الدكتور شلبي شميل، سلامة موسى، إسماعيل مظهر، محمد حسين المرصفي، أحمد شوقي، خليل مطران، إبراهيم المازني، عباس محمود العقاد، أنطون الجميل، مصطفى صادق الرافعي، طه حسين، داوود بركات، زكي مبارك، عبد الرحمان شكري.

لا استغراب في أن يكون صالون مي من الظواهر الثقافية الكبيرة في الأدب الحديث، ويكفيه هذه الكوكبة من الرواد الذين يرتدونه وهم من هم في التجديد والتحديث، فحصل لمي أن ربطت معهم صداقة، ووطّدت معهم الصلة، فكان نجاحها بنجاحهم، فقيض لصالونها نجاحا باهرا لم يقيض لأحد في عصرها، ولهذا النجاح أيضا أسباب ذاتية تميزت بها شخصية مي، فالإخلاص في العمل وشبابها المليء بالقوة والإرادة وتألق نبوغها وسحر حديثها، جعل عطش الرواد يروى، بماء عذب سلسبيل كان ملؤه السعادة الروحية، فأثرت في أدباء ومثقفي عصرها من ناحية إنسانيتها الراقية وفنياتها الإبداعية، فكان لها سبق المشاركة في كل حديث ونقاش بأدب جم ووجه بشوش يلخص معاني السعادة، وهذا الأستاذ الكبير محمود عباس العقاد يصف أبلغ وصف حديث مي قائلا: ”كان ما تتحدث به مي ممتعا كالذي تكتب بعد رواية وتحضير، فقد وهبت ملكة الحديث وهي طلاوة ورشاقة وجلاء، ووهبت ما هو أول على القدرة من ملكة الحديث وهي ملكة التوجيه وإدارة الحديث بين مجلس المختلفين في الرأي والمزاج والثقافة والمقال، فإذا دار الحديث بينهما جعلته مي على سنة المساواة والكرامة، وأفسحت المجال للرأي القائل الذي ينقضه أو يهدمه وانتظم هذا برفق ومودة ولباقة، ولم يشعر أحد بتوجيه الكلام منها، وكأنها تتوجه من غير موجه، وتنتقل بغير ناقل وتلك غاية البراعة في هذا المقام.”، فنتج عن هذا التعامل الراقي حرص هذه النخبة على الحضور في الصالون كل يوم ثلاثاء من كل أسبوع، فإذا تعذر حضور أحدهم واضطر للغياب تأسف تأسفا شديدا لما سيفوته من النقاش الهادئ والدرر في ذلك المجلس، كما هو الحال مع الشاعر إسماعيل أحمد صبري، الذي اضطر للغياب ذات مرة، يعبر معتذرا عن ذلك قائلا:

مقالات مرتبطة

روحي على بعض دور الحي حائمة *** كـظامئ الطير حواما على الماء
إن لم أمتـع بمي ناظري غـــــــــدا *** أنكرت صبحك يا يوم الثلاثاء

عظمت مكانة مي في قلوب زائريها، وكانت شديدة الحرص في المحافظة على مكانتها المرموقة ومجدها الأدبي الرّفيع، فضاعفت جهودها في القراءة والمطالعة والبحث والتأليف، ما جعل ثقة المعجبين بها تزداد، فعزمت على المضي قدما لتحقيق طموحها وتنمية نبوغها، وجعلت من شعارها التضحية والتفاني في العمل، لدرجة عدم شعورها بحجم تلك التضحيات من نشوة النجاح ولذة النصر، جعلت تفكيرها كله ينصب نحو المجد الأدبي والمكانة العظيمة، وبذلك استطاعت أن تكون فراشة روحية بين المترددين على صالونها، وأيقونة الحب والتسامح، فحديثها تشع منه روح التسامح والحب والود والتهذيب الرفيع والفكر العميق والنكهة المهذبة.

ما ميز صالونها أن المترددين عليه، يتحدثون في شتى المواضيع الفكرية والأدبية، فكان النقاش يتسم بالموسوعية، وهذا راجع للقامات التي تناقش وتناظر وتبادل الحديث فيما بينها، والأجمل من ذلك هو التزامهم بالحديث باللغة العربية والانفتاح أيضا على اللغات الأجنبية الأخرى، وتميز حديث مي بانضباطها باللغة العربية الفصحى مع إتقانها للغات الأجنبية الأخرى، هذا احترام منها لهوية المكان الذي توجد فيه وللأشخاص الذين يحضرون معها.

أما الأجواء العامة لصالونها، فيطبعها الطابع الأدبي الذي لا يتغير، ولم يزاحمه مجال آخر إلاّ في الحالات النادرة، ولئن تجافت صاحبته عن السياسة الحزبية والوضع الدولي، ولكنها لا تغفل عنها مع نفسها فتقرأ كبريات الصحف التي تعنى بهذا الشأن وتقدم وتسأل في حوارات مع بعض المجلات الأدبية في النهضة العربية وتطورها وأسبابها، وكان الشعور الوطني الأصيل والرأي السديد في الخطاب، يغلب على طابعها وتغلو في الاعتدال؛ وذلك راجع لانفتاحها على جميع التيارات والمذاهب الفكرية، وإن كان هناك تباعد في صالونها عن التيارات الحزبية والتعصبية، ولكن الضرورة الملحة والارتباط الوثيق بين الأدب والواقع المعاش، والنقاشات العمومية التي تعيشها البلاد في تلك الفترة، جعلتها لا تستطيع أن تدير ظهرها والمجتمع يعاني، وإذا مرت بحديث طارئ أو عابر عرفت بلباقتها كيف تتناول الموضوع أو تنهيه، ولم يحضر سياسي ولا زائر من السلك الديبلوماسي، إلاّ كان الأدب وسيلته الوحيدة إليها ولصالونها، وتحدثنا الأديبة إيميه خير عن صالون مي زيادة واصفة النقاش والمواضيع مبينة أهداف الصالون بقولها: ”كان أبرز أهداف صالونها، البحث عن إنشاء جديد يقرّب بين طرفي اللغة الفصحى التقليدية واللغة العامية، والتقريب بين الفكر الشرقي والغربي بواسطة تعريب الروائع الأوروبية.. وفي أيام الثلاثاء كان يزدحم الصالون، فتناقش الكتب الجديدة والقصائد الحديثة والحملات الصحفية وكان أنطون الجميل أفوه خطباء الشباب يحلل قضايا الساعة.. وتندمج مي في شتى الأحاديث بما توحيه روحها الوثابة من الأفكار المبتكرة…”.

هكذا نلحظ الانفتاح الباهر الذي يعرفه النقاش الذي يميز صالون مي، والذي يعتبر أبرز أسباب النجاح والاستمرارية، فكان يتسع لجميع التيارات والمذاهب، يقبل كل الآراء والتوجهات، وكل الفئات الاجتماعية مع اختلاف مكانتهم وأعمارهم وبلدانهم، يذكر عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين هذه الأوصاف في قوله: ”كان صالونها ديمقراطيا أو قل كان مفتوحا لا يرد عنه، الذين لم يبلغوا المقام الممتاز في الحياة المصرية، وربما كانوا يدعون إليه، وربما كانوا يستدرجون إليه استدراجا فيلقون الناس ويتعرفون إلى أصحاب المنزلة الممتازة، ويكون لهذا أثره في تثقيفهم وتنمية عقولهم وترقيق أذواقهم… كان الذين يختلفون إلى هذا الصالون متفاوتين تفاوتا شديد فكان منهم المصريون على تفاوت طبقاتهم ومنازلهم الاجتماعية وعلى تفاوت أسنانهم أيضا، وكان منهم السوريون وكان منهم الأوروبيون على اختلاف شعوبهم وكان منهم الرجال والنساء، وكانوا يتحدثون في كل شيء ويتحدثون بلغات مختلفة وبالعربية والفرنسية والإنجليزية خاصة…”.

ومما زاد من مكانة صالون مي زيادة الأدبي، توسع رقعة الزائرين لتعم جميع الأجناس والقارات، وقد زاره اثنان من أفضل المفكرين الأمريكيين، الأول هنري جايمس القصصي الأمريكي وشقيق وليم جايمس العالم النفسي المشهور، والثاني ابن الشاعر الأمريكي، وكانت مي معهما مثالا للمرأة الشرقية المثقفة، فخرج الأديبان الكبيران من صالونها يكنان إعجابا شديدا بها وبفكرها المنفتح وتعاملها الراقي، ومما يدل عليه هذا ذيوع صيت هذا الصالون وانتشار أخباره في الٱفاق، وتجاوزه للقارات كرمز من رموز الحرية الفكرية.

ومما تجدر الإشارة إليه، أنّ المرأة العربية في تلك الفترة لم تحظَ بحقوقها الاجتماعية والتربوية، وخاصة التحاقها بالمدارس من أجل التعليم، وعندما رأى رواد هذا الصالون وغيرهم من المفكرين الأديبة والمبدعة مي زيادة بشخصيتها الفريدة وإبداعها الفكري، وإصرارها الكبير على رفع التحدي وتجاوز الصعاب من أجل بلوغ المرام، ازداد وعيهم واشتدت دعوتهم من أجل إعداد الفتاة في منزلها ومدرستها، بداعي تكوينها والرفع من مستواها المعرفي والثقافي، باعتبارها اللبنة الأساسية في المجتمع والمدرسة الأولى التي يتخرج منها الصغار، ولما تتحمله من مسؤوليات جسام في الحياة، فهي الأم والأخت والزوجة…، فتخرج من هذا جنود يدافعون عن تعليم المرأة ورفع الحيف الاجتماعي والثقافي عنها، وكان على رأسهم الأستاذ أحمد لطفي السيد والدكتور طه حسين، وإليهما يرجع الفضل في تشجيع الكثير من الأديبات فيما بعد عصر مي.

ولا شك أن ما وصلت إليه مي من الاهتمام البالغ بالشأن الأدبي والثقافي عموما، إنما يجري في عروقها ورضعته في ثدي، بل نهلته من أبيها المعلم والصحفي إلياس زيادة صاحب ومحرر جريدة ”المحروسة”، فقد تعلمت منه القدرة على محاورة رجال الفكر والأدب والثقافة، فكان الراعي لها، والمساند القوي قبل أي أحد آخر، فأحسن التربية والتعليم، فكان نتاج ذلك، امرأة أديبة ونابغة، فهي فريدة عصرها وحلية الزمان والدرة اليتيمة…، كما لقبها أهل زمانها ومعاصريها.

وختاما أورد انطباعا شاملا وكافيا لأمير الشعراء أحمد شوقي عن مي زيادة المبدعة وصالونها المتألق بقصيدة يقول فيها:

أسائل خاطري عما سباني *** أحسن الخلق أم حسن البيان؟
رأيت تنافس الحسنين فيها *** كأنهما لـميـــــــــــــــــة
إذا نطقت صبا عقلي إليها *** وإن بسمـــــــت إلى صبا جنـــــاني
وما أدري أتبسم عــن حنين *** إلى بقلبــــها أم عن حنان
أم أن شبابها راث لـشيبي *** وما أوهى زماني من كياني

1xbet casino siteleri bahis siteleri