الضياع ..

شعور لا يوصف وغريب، تشعر به وكأنه فراغ خال من كل عنصر مادي وثقل فولاذي لا يتزحزح في الوقت نفسه.. تشعر بالشيء ونقيضه… تضيع بين البكاء والابتسامة، الحنين والنفور، البرد والحرارة، الرغبة وفقدانها والوجود واللاوجود.

يا لها من حالة صعبة، وكأنك تسبح في الفراغ، طاقته القوية تغنيك عن التشبث بأي شيء سوى السقوط والانهيار والنسيان، قوة غريبة تشدك نحو جميع الجهات وبشكل ما تشعر بنوع من الاستقرار المميت، وحين تقرر التحرر، بتلقائية، تصطدم بجدار اللانهاية، وتلتهمك أيادي الطاقة المظلمة المزينة بالغموض، التهام الجائع القادم من رحلة طويلة بعيدا عن الوطن، يشتاق لقطرة ماء ناجية فتتقدم بطواعية نحو الأمام وتندثر آثارك شيئا فشيئا…

عندما نسقط في دوامة التغيير، نرتدي سترات سوداء لا تتضح فيها أجسامنا، وما نعود نستطيع التعرف على أنفسنا ولا من اعتدنا أن نعرفهم من قبل، نصبح مجاهيل من الدرجة الأولى، وبلا معادلة، نصبح أيتاما بلا مأوى، ونتدفأ بحنيننا لذواتنا السابقة، لا نستطيع أن نميز ما إن كان التغيير فرضا أم خيارا.. أ عندما تدرك أنك فقدت نفسك وسط ذاتك الجديدة أي بعد التغيير؟ أم عندما أدركت أنك عالق في الضياع ولا تستطيع أن تتعرف على ذاتك الجديدة ولا على القديمة؟ الحيرة تأكلك في كلتا الحالتين لأنك لن تعرف الجواب إلا بعد الانتقال إلى مرحلة تجديد آخر، إلى ذاك الحين ستظل مسألة الإجبار والتخيير لغزا مغلقا بمفتاح قفل لا مرئي، والذي يعجز المرء العادي عن حله، لأن الإنسان العادي ينجرف وراء الأحاسيس ببصيرة عمياء، ومن أبرزها، الخوف.

مقالات مرتبطة

الخوف حالة يتمنى فيها الإنسان الخروج من مأزق الخطر المملوء بالقلق من حدوث حدث يخشاه لاوعي الإنسان وتختلف طبيعة هذا الحدث حسب ذكريات المرء مع محيطه، مع الطبيعة ومع نفسه بالتأكيد. وعليه فالإنسان يسعى إلى الخروج من الخطر عبر تغيير نوع الخطر معتقدا أنه مكان النجدة، فيلجأ لإعادة بناء شخصيته لتتوافق مع مخاوفه الجديدة، في الواقع، تحسب أنك تخلصت من سبب الخوف لأنك دفعت الإحساس بهذا الشعور بينما أنت في الأصل غيرت نوع الخطر، أي أن الخطر سيلحق بك أينما تواجدت… وهذا ما يبرر عمليات التغيير المتكررة. وحتى إن حاولت استرجاع الخطر السابق، محاولا التخلص من غربة التغيير، فإنك تسعى للتغيير نفسه، لأنها في الأخير تبقى عبارة عن عملية انتقال من وضع إلى آخر.. كان انتقالا مباشرا أو عكسيا.

وفي حين إذا كان هذا الانتقال عكسيا، فهذا يعني حدوث حالة من حالتين، الحالة الأولى يكون فيها الإنسان على حافة أبواب الضياع منزعج من هذا الشعور الذي باغثه فجأة فيحاول تجاهله عبر استرجاع الخطر الذي حاول دفعه والحالة الثانية عندما يمر الإنسان بعدة انتقالات في ظرف مدة طويلة.. ويتبين له أن واحد من الأخطار التي واجهها كانت أصحها بل الأخف ضررا، ولكنه يعود بخطة جديدة للتعامل معه والدخول إليه دون مساعدة الضياع. في كلتا الحالتين بمجرد التفكير بالخطر السابق يكون دليل على تعرف الضائع على ذاته الحالية واتضحت ملامحها الوجدانية، وبمجرد سأمه منها فهذا يؤكد فهمه لذاته السابقة. لكن هذه الحالة نادرة الحصول، إذ لا يتسنى لكل شخص عبور طريق النضوج أو بلوغ درجات عالية من الحكمة، الكثير منا يقضي حياته بأكملها يتخبط بين ذواته المتعددة، أو يحاول الخروج من فقاعته لكنه يستسلم بعد أول وآخر صعقة.

إنها فعلا دوامة لا متناهية…. تترنح فيها الروح بين فقدان واكتساب، بين جديد وقديم وبين مجهول ومعلوم… كيف يحدث هذا التغيير.. أهو فقدان صفة؟ فقدان شعور، مبادئ، قيم، حبيب، الذات؟ وهل هي الأشياء التي جعلتنا ما كنا عليه؟ ما الذي نكتسبه في المقابل؟ لا يعقل أن تكون نفس الشيء.. لأننا في الأخير نغير نوع الخطر ولا نخفف من درجته لأن هذا الأمر ليس بأيدينا، لأن الأخطار خاصتنا كانت توجد قبل وجودنا، إنها أزلية وأبدية التأثير كما هو الحال بالنسبة للخوف، ما نكتسبه هي أشياء جديدة وغريبة علينا، نستبدل فكرة بأخرى، الامل بدل الإحباط، الرفقة بالوحدة، الشعور بالتقدير بدل الاحتقار وهكذا، تصبح بلمح البصر شخصا جديدا، متغيرا، مريضا نفسيا أو ناضجا.. وعندما نسأل أنفسنا: لماذا؟ لماذا التغيير؟ اسأل نفسك أيضا.. لما تسعى للاكتشاف؟ لما تتحسر على نبأ لم يصلك؟ فور علمك بشيء وتتبين صحته عن ما كان عندك.. تكتسبه، تؤمن به وتجعله نصب أهدافك وحسب عمقه ترتفع درجة التغيير ومدته. والتغيير المطلق لا يوجد، لأن لا شيء مطلق سوى الحقيقة وهذه الأخيرة بنفسها تتخللها شعاعات نسبية مما يجعلها نسبية التصديق وقابلة أن ترفض.

وفي بحر الضياع العميق، ننجو في كل مرة أبحرنا فيه، لأننا لا نفارقه أبدا، ما دمنا نفكر ونستهلك أفكار الآخرين… وما أن تدخله فاعلم أنك قادر على الرجوع لكنك لن تجد الإرادة في ذلك، الأسماك في القاع تناديك وتحيط بحلقة الخروج، تنتظرك بأحر شوق لالتهامك والقضاء عليك، وأشعة الشمس ونور القمر يعميك ويدعوك للصعود في كل مرة تهبط للقاع، إنك عالق مع الماضي والمستقبل، إنك في صراع أزلي، في حرب باردة، في شوق وإرادة ورغبة ولكنك مستقر… فأنت، لازلت تسبح.

1xbet casino siteleri bahis siteleri