هل للقراءة دور في محاربة الملل؟!

في بلادنا السعيدة هذه، أصبحت ظاهرة النميمة وأكل لحوم الناس والنهش في أعراضهم، وظيفة أغلب الفئات العمرية وإن لم أقل كلّها، فهي عادة متوارثة بين مختلف أفراد المجتمع على مرّ السنين.. إنّ الناس هنا يغتابون الآخرين لأنهم لا يتوفرون على عمل ولا واجب يقومون به، ولا مواضيع ومشاريع وأفكار جديدة مهمة يناقشونها والتي قد تعود عليهم بالنفع أولاََ وعلى مجتمعهم ثانيََا، فهذا راجع بالأساس إلى الفراغ الكبير الذي تعاني منه الأغلبية الساحقة نظرََا لقلَّة فرص الشغل، والفقر وانتشار التخلف والانحراف بين صفوف أفراد المجتمع، وهذا ما يؤدي إلى تدنّي الأخلاق والقيم ومستوى التنمية في هذا الأخير، ومن ثمّ سيفقد المجتمع هوّيته وثقافته التي تُميّزه عن باقي المجتمعات، بالإضافة إلى تولُّدِ الجهل وانتشاره بطريقة سريعة عند الأفراد وتوارثه بين مختلف الأجيال، وحينها لن يكونوا قادرين على تمييز الخطأ من الصواب، والحق من الباطل والخير من الشرّ…

إنّني كما أرى في محيطي ومجتمعي، أغلب المقاهي ممتلئة عن أواخرها بالرجال والشباب وكذا الفتيات، وتجد أغلبيتهم مجتمعون على الضحك ومراقبة المارَّة من الفتيات والنساء.. سؤالي هنا، كم من مرة رأيتم شخصا منعزلا في ركنه لوحده أو مع صحبة، يحمل كتابا أو حاسوبا ومنغمس فيه، يقرأ ومنشغلا بدارسته أو عمله؟ ستجيبونني بأنه نادراً ما يلفت انتباهكم هذا الأمر.. ولكن في المقابل أغلبهم منشغل في نهش أعراض الناس واغتيابهم وحَشْو أمعائهم بلحوم إخوانهم، وكذا قذف المحصنات من البنات والنساء..

إنّ الإشكالية المطروحة هنا، تكمن بالأساس في أنّ أغلب الناس وبالأخص الشباب الذي يُعتبرُ الجيل الذي سينهض بالبلاد والمضي بها قدما نحو الأمام وتطويرها، لا يقرؤون أو بالأصح لا يسعون للقراءة والمطالعة، وانشغالهم بأنفسهم لتطوير ذواتهم، وإنجاز هواياتهم المفضلة وكذا ممارسة العمل الجمعوي والاحتكاك مع الفاعليين التربويين ومختلف هيئات المجتمع.. بل أصبح الهاتف ووسائل التواصل الاجتماعي (أو وسائل التشتّت إن صحّ التعبير) بكل أنواعها هي المسيطرة على مجرى حياتنا في الآونة الأخيرة، والتي يمكن اعتبارها سيفا ذا حدين.. فمن جهة تجدنا ننغمس بكل جوارحنا داخلها ونضيع فيها، ثم نكتشف أننا نغرق ونغرق ونتيه فيها كليا، تبدأ بصورة، فيدو، تعليق، فرسالة وتواصل.. لقد فقدنا للأسف القدرة على تقسيم وتقييم أولوياتنا، وكذا متطلباتنا وحاجياتنا.. ومن جهة أخرى، هناك فئة قليلة تعتمد على هاته الوسائل لتحقيق الربح والاستفادة ونشر محتوى هادف ذي قيمة جيدة..

إذن فما الحاجة للقراءة في حياتنا اليومية؟ وهل لها دور كبير في محاربة الملل والفراغ أو الحدّ منه نسبيا؟!.

في نظري المتواضع، فالحل يمكن أن يأتي بعدّة أمور إن التزم بها الإنسان، كممارسة الرياضة والهوايات المفضلة كالقراءة  والكتابة والسفر، كل حسب ميولاته واستطاعته.. هنا سأتطرق للقراءة لما لها من دور أساسي في محاربة الفراغ والملل، فهي لم تأت من عالِم أو مفكّر بل أول آية نزلت من القرآن الكريم على رسولنا الحبيب ﷺ، يقول سبحانه وتعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } [العلق: 1]، فهي وسيلة أساسية للتعليم (قبل أن تكون هواية ممتعة) لكسب العلم والمعرفة، وذلك لتوسيع الأفق والحصول على قدر كبير من المعلومات بمختلف المجالات الحياتية، لتنمية المهارات الذاتية والأفكار لدى الإنسان وتكوين المعارف الأساسية التي تكوّنُ شخصية المرء، وتفتح له أبواب العلم والابتكار، وإيجاد حلول للأزمات والمواقف الاجتماعية.

فبالقراءة يمكن للأفراد أن تؤهل المجتمع وتعطي أفكارا و حلول من شأنها أن تؤدي إلى ارتقاء مستواه المعرفي وكذا الحضاري، فذاك الأثر الذي تتركه القراءة في حياة كل فرد في المجتمع، يؤدي إلى الزيادة عملياً من مستوى إنتاجية الفرد وتفاعله داخل مجتمعه ومحيطه، وتعاطفه ووعيه، وهذا ما سينعكس حتماً على المجتمع بقدرته على التفاعل الإيجابي، وعلى عملية التحليل والنقد البناء، ونبذ التطرف والانحراف الذي يسود بين مختلف فئات المجتمع المغلوب على أمره، هذا من جهة..

أما على المستوى الشخصي للمرء، فبالقراءة يمكن للإنسان أن ينتقل بين روائع الشعر والقصائد، والروايات، ومؤلفات العلم والمنطق والفلسفة، والطب والاقتصاد، وهذا من شأنه أن يُحفّز الفكر، ويحافظ على صحّة العقل والذاكرة، والتفكير الجيد والمفيد، كما أنّه يحُدُّ من التوتر والقلق المتزايد إثر العمل أو الملل والتفكير المتواصل في مسار مجرى حياة الفرد، حيث يتمكن الإنسان من خلال القراءة والمطالعة أن يعبّر عمّا يريده بدقة ووضوح، فهي تُحسّن مهاراته ونطقه ومستوى التواصل، واستحضاره لمفردات متنوّعة، وغنية بالمعاني، في الكلام أو الكتابة، لذا يمكن وصف القراءة بأنّها فرصة لا مثيل لها، لا تنتهِ للارتحال لعوالم أخرى، تؤدي إلى مضاعفة خبرة الإنسان ومعرفته، وتزيد من أفق تفكيره، وصفاء ذهنه وروحه.

بالإضافة إلى ما سبق، يمكن اعتبار القراءة جواز سفرٍ لرحلةٍ طويلة، تتيح لك أن تعبر الحدود الجغرافية والحدود الفكرية وتبحر في العبر ومعاني المعرفة والمعلومات.. وأنت في ركنك المعزول عن الآخرين وأمورهم مما يعني أنه لا يوجد لك وقت للتفتيش وراء أفكار الآخرين والتطفل..

إن السبب الرئيسي في هذه الظاهرة التي تأكل وتنخر في مجتمعاتنا وتهلكها يوما بعد يوم راجع بالأساس إلى نقص أو عدم التربية والتعليم وكذا غياب عنصر التوجيه التربوي للفرد منذ ولادته وكذا خلال مساره الدراسي بالأخص السلك الابتدائي والثانوي التأهيلي… إن عامل التحفيز والتشجيع له دور كبير في توجيه الأبناء إلى تنمية القراءة لديهم، حتى تتكون لديهم ملكة القراءة وتصبح عادة يومية لكي يصلوا إلى النضج المعرفي المأمول.

كما أن للقراءة أهمية كبيرة في حياة الفرد، فهي السبيل الوحيد لتكوين شخصياتنا الإنسانية وصقلها بمختلف أبعادها..إلاَّ أنه يجب على الإنسان أن يقتني ويعرف ما يقرؤه، ويميز بين أنواع الكتب التي يريد أن يقرأها.. فالكتاب الأول والأهم هو كتاب الله، وهو أمُّ الكُتُب كلِّها وإليه مرجع الكتب، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «خَيرُكُم من تعلَّمَ القرآنَ وعلَّمَهُ» رواه البخاري.

إن قراءة القرآن وتدبر آياته، فيه الخير الكثير للإنسان، وفضله عظيم، فبها يحصل المسلم على الحسنات، ويتقرب به إلى الله تعالى، ومن فضائله أن جعل الله مَن تعلّم القرآن وعَلَّمه غيره خير الناس وأفضلهم في هذه الحياة الدنيا وله أجر عظيم، فالقرآن الكريم كتاب هداية وإرشاد وتهذيب وإصلاح، فيه الخير كل الخير لمن تمسك به وعمل بهداه. وهو الذي يشفع لصاحبه يوم القيامة ويعلي منزلته ودرجته في الجنة.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى يجب على الإنسان أن يقتني ويقرأ الكتب المفيدة، التي تبني ولا تهدم، والتي تعلم ولا تفسد، كما يقول الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت : “إن قراءة الكتب الجيدة هو بمثابة التحاور مع أعظم العقول التي عاشت عبر العصور الماضية”. فالكتب الجيّدة المفيدة لها دور أساسي في تنمية العقل والذهن حتى يكون الإنسان سويا ذا عقل راجح يفيد نفسه وأهله ومجتمعه، ومن ثم يصبح عنصراً صالحا في بلده.. لقد صدق الروائي السوري عبد الباقي يوسف عندما قال: “إن الكتاب هو زاد فكري ومعرفي يحتاجه كل إنسان مهما كان تخصصه في الحياة”.

وفي الختام، حسب رأيي فالمسؤولية كبيرة وواسعة ملقاة على عاتق الجميع آباء وأبناء، فما دام الإنسان على قيد الحياة بصحة عقلية جيدة، لا بد له أن يوفِّر ويخصِّص من وقته مجالاً للقراءة كيفما كانت نوعية الكتب (قرآن، كتاب، رواية، قصة، مجلة…)، وأن يجعل للكتاب قيمة في حياته، إضافةً إلى البحث عن الأشخاص والقدوات المثقفة التي تبدع في هذا المجال، والتي من شأنها أن تزرع في محيطها ثقافة القراءة والكتابة..

إنّ قراءة الكثير من الكتب المفيدة، تفيد المرء في جوانب مختلفة من الحياة بأكملها، وتساهم بشكل كبير في ذكاء الإنسان وتحفّز خلايا دماغه، وكذلك تعزيز الثقة بالنفس من خلال كتب التنمية الذاتية وعلم النفس بالنسبة للأشخاص الذين يواجهون صعوبة في عيش حياة سوّية متوازنة والاستمرار فيها، وذلك من خلال تجارب الآخرين على مرّ العصور.. وكذا تساعد المرء على ملء وقته وتوسيع الأفق والحصول على قدر كبير من المعلومات والأفكار في مختلف المجالات الحياتية، وعدم الشعور بالملل القاتل الذي يؤدي إلى ما لا تحمدُ عقباه.. إضافة لذلك، فتعليم الأبناء مبادئ القراءة منذ سنّ صغيرة يُمكّنهم من الحصول على سلاح قوي جدََا في مواجهة الأفكار البِطَالية والرجعية والعادات السيّئة التي أصبحت منتشرة في مجتمعاتنا بكثرة.

وخلاصة القول، نصيحتي للشباب وبالأخص لمن يعاني من الفراغ والملل، أن يجربوا صحبة وصداقة الكتاب، فهو نعم الصاحب وخير جليس.. كما يقول الشاعر أبو الطيب المتنبي :

أَعَزُّ مَكَانٍ في الدُّنَى سَرْجُ سَابِحٍ  ***  وَخَيْرُ جَلِيسٍ في الزَّمانِ كِتابُ

1xbet casino siteleri bahis siteleri