شن طن: عندما ينتقد الفنُ الهابطُ.. الفنَّ الهابطَ

كانت دائما مهمة الفن هي النهوض بالذوق العام في المجتمع، بل أحيانا كانت مهمة الفن تغيير مسار التاريخ والأمم وقد أجمع النقاد أن نهضة أوربا إنما كانت مع بيكاسو وبيتهوفن. لكني، أقر بداية وأعترف من الوهلة الأولى أن مقالي هذا ليس دراسة تحليلية عن الفن ولا عن تاريخ الفن، بقدر ما هو رصد لظاهرة خطيرة وحسب، رصد لما يسمى ويطلق عليه “الفن الهابط” كما أني لن أتوقف عند تحليل هذه العبارة المتناقضة، فالفن دائما ما يجب أن يكون شيء سامي وراقي وإذا كان عكس ذلك فهو ليس بفن. ولقد كان لزاما عليّ أن استمع لعشرات من أغاني الراب الهابطة والمنحطة حتى تتكون لي الصورة وأكتب عن معرفة لا عن توهم. وبالتالي قارئي العزيز لا تتوقع أن يكون هذا المقال تحليل فلسفي فكري، أو تأملات جمالية في جمالية الفن وغاية الفن الأسمى في رفع الذوق العام، بقدر ما هو رصد لظاهرة الفن الهابط كما سبق وذكرت. هذه الظاهرة الخطيرة والمنتشرة بكثرة في الآونة الأخيرة على مواقع التواصل الاجتماعي وفي أوساط المراهقين.

ولا أعرف هل وصلنا لدرجة من الانحدار والانحطاط الفني حيث يصبح التنافس ليس على الجودة وعلى الفن الراقي الذي يرفع الذوق العام ويهذبه، بل أصبح التنافس على اللاجودة وعلى من يقدم الأحط والأسوأ من الآخر.

وقد بلغنا درجة من الانحطاط الفني العام حيث أصبح معها الفن الهابط والساقط والمنحط يُنتقد من فن هابط آخر، وأصبح التنافس في من يقدم فنا هابطا ومنحطا أكثر، سواء أفي الكلمات أو في المحتوى والمواضيع المشتركة دائما، أو في الموسيقى أو في التصوير.. أو ببساطة في كل شيء. ويظن بعض الأغبياء ممن يحسبون أنفسهم فنانين أن يكفيهم أن يأتوا بكلام مقفى تتشابه أواخره حتى يسموا ما يفعلونه فنا.. يقول أحدهم مثلا: “وهيا روابة الميكا راه كلكم ميخيات.. غير بوحدي فيا كليكة كنشوفكم ضحيات”

وإذ أعتذر لقارئي العزيز على تلطيخ مسامعه بهذه الكلمات وبما هو قادم، فهذا المقتطف هو أقلها حدة وانحطاطا ولك أن تتخيل الأكثر انحطاطا كيف هو؟! فقد اتفق هؤلاء -الفنانون الجدد- على شحن أغانيهم بالكلمات النابية والقذرة غير ذات معنى، ولنا مثالا في الأغنية التي اشتهرت مؤخرا بين أوساط المراهقين والتي أودع صاحبها السجن بتهمة الترويج والتحريض على الفساد، إذ تجد الأغنية ذات الدقيقتين تطفح بالسب والشتم والقذف والكلمات النابية لإظهار قوة زائفة ومصطنعة. كما اتفق هؤلاء “الفنانون الجدد” على الإساءة وعلى إهانة الفتيات القاصرات بل حتى التهجم على المرأة في جميع حالاتها الاجتماعية الأرملة والمطلقة والمتزوجة، العاملة وغير العاملة. كما اتفقوا على كره الحب وأنهم جميعا أعلى من الحب، ويلخص الحب عند هؤلاء في الجنس وعلى أن الحب مجرد نزوة. “حبك المجردة دار فيهم حالة.. حبك المبهدلة غير ليلة وتسالا” يقول أحدهم.

مقالات مرتبطة

كما أنهم كلهم نقاد، “فالفنان الجديد” ناقد لكل شيء وثائر على كل شيء.. بلا رؤية نقدية ولا حتى معرفته بأبسط آليات النقد، ويظن الفنان الجديد أن مجرد الحديث عن المشاكل الاجتماعية من فقر وبطالة وإدمان مخدرات وطرحها في أغانيه، أو اتهامه للسياسيين بالسرقة، نقدا لاذعا يستحق عليه التكريم. وللمفارقة فهؤلاء الذين اتفقوا على انتقاد الإدمان تطفح أغانيهم بمشاهد لاستعمال المخدرات والترويج لها، بل يتباهى أحيانا المغني بأنه يتعاطى المخدرات أو هو تاجر كبير يحكم السوق.

“ماعندي لاش نهضر.. كنهضر كنبدا نخسر.. كنخسر كنبدا نسكر.. كنسكر كنبدا نهتر.” هكذا يقول أحدهم أيضا، ويجب التشديد على القافية فهي أهم شيء في المقطع، وإلا لا يمكن اعتبار هذا فنا، فالقافية هي كل شيء وأهم شيء، حتى وإن كان “الفنان” هنا يروج صراحة لشرب الخمر.

والملاحظ في بعض تلك الفيديوهات لبعض مغني الراب اللعب على موسيقى إيقاعية تجذب الأسماع، كما يلاحظ وجود فولكلور شعبي في الخلفية إما لأحدوس أو أحواش أو الدقة الهوارية.. وكأن هذا الفن -إن إطلاق اسم الفن هنا هو لتقريب المعنى فقط وليس تصنيفا- يشعر أصحابه بأنهم دخيلون ولقطاء ويريدون أن يجدوا لهم حاضنة شعبية ومتلقي حتى يقعِّدوا لفنهم ويروجوا له على أنه فن شعبي، فيضعون فولكلورا شعبيا في الخلفية.

وإن أخطر ما في هذا الصنف من الموسيقى هو تقديم شرذمة من الأغبياء والفشلة في حياتهم وفي مسارهم الدراسي والمدمنين على المخدرات على أنهم رموز وقدوات للمراهقين وللناشئة.. بل إن بعضا من تلك الأغاني كان يظهر فيها أطفال صغار وهم يحملون أسلحة بيضاء ويرقصون على أنغام موسيقى ليست كالموسيقى، موسيقى سريعة وصور مبتذلة تقدم إثارة حسية مباشرة وتهيج العواطف وحسب. والخطورة تكمن في أن يصبحوا هؤلاء الأغبياء والفشلة هم من يحددون لنا القيم العامة للمجتمع وللمراهقين، ويحددون لنا ما هو الصحيح وما هو الخطأ والخير العام.. وكم يحز في نفسي عندما يمر بقربي مراهق وهو يضع أغنية بصوت عالٍ ويردد معها بكل زهو ونشاط، أو أن أسمع تلميذا يردد مقطع أغنية بكل كلماته وأنغامه وهمساته وهو لا يتذكر أهداف الدرس السابق.

إننا إزاء ظاهرة خطيرة وجب الوقوف عندها أولا وتشخيصها ثانيا ثم تحليلها تمهيدا للحد منها وتجاوزها. وقد كان هذا مجرد رصد لهذه الظاهرة الاجتماعية كما سبق وذكرت، وبعد أن اعترفت في بداية المقال أن تحليلي ليس تحليلا فلسفيا فسأختمه بتساؤلات تحدد لنا المرحلة الثانية مفادها: من يحدد لنا جودة الفن الجمهور أم الفنان؟ وهل الانحطاط الفني هو سبب للانحطاط في باقي المجالات أم نتيجة لها؟ وأين الدولة ومؤسساتها الثقافية من هذا الانحطاط ومن الفن الهابط؟ وما السبب في انتشار هذا الصنف من الأغاني بكثرة في الأواني الأخيرة؟ فهذه التساؤلات وغيرها تحتاج لوقفة ولدراسة معمقة حقيقة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وإعادة الفن لجادة الصواب وللقيام بدوره المنوط به في المجتمع.