طبق المحبَّة

التعبير عن الحُبّ يتم في قَوالِب عدة، تختلف من فرد لآخر ومن علاقة لأخرى، بعض الأشخاص تُؤمن بأن الكلمات والعبارات التي تُكتب بحبر القَلبِ قبل مِداد القَلم كافية لإيصال ما يَحمِلُه الوِجدان من أحَاسيس ومَشاعر، والبعض الآخر يضع محبَّتهُ في هدية يغلفها بالمَودَّة ثم يقدمها، منا كذلك من يختصرها في عناق حار، كأنها دعوة لاستشعار كل ما بالصدر من حُنُوّ، تتغير الطريقة بتغير الطَّبع والمُحيط والذوات؛ 
وعني أنا، أرى بأن أرقى إفصاح عن الحُب يكمن في الطَّهو، ذلك الفَنّ الفريد من نوعه، الذي وُجد ليجعل فُؤاد المرئ كبير، دافِئ ومليء بكل طَيِّب إحساس، مهما بَدى أَمْر روتيني، سطحي، إلا أَنَّه يخبئ بداخله حِكايات وأسرار كثيرة لا يُدركها إلا من يمارسه بشَغف، لكل وصفة مفتاحها الذَّهَبي ولكل طبق سِرهُ المسؤول عن لذَّتِه. تجد نَفْسك دون شعور وأنت تَطبخ، أمام مِرآة ذاتك، تَتعلَّم أن تُدرك ذَوقك الخاص، وسِحرك الذي يُميزك.. تُقَطِّع بكل انتباه، تضعُ المكونات بكل تَركيز، تَقيس بعينك الكمية، وتحرك بكل رِقة…تحترم الوقت الذي تحتاجه الطبخة لتستوي على مهلها، وتخاف على العجينة من أن تحترق في حضن الفُرن…
إننا نوظف الكثير من حواسنا دون إدراك مسبق منا ونمارس الطَّبخ بعمقٍ أبْلَغ مما قد يتهيأ لنا، نضع في كل صَحن شيء خاص بنا ومِنّا، القليل من العفوية، رشَّة من المُتعة، وقِدْرٌ يفيض بالهَوَى.. وفي لحظات كثيرة يُباغتنا الخيال فنبدع فيما نَصنع، نضيف الألوان والأشكال، نختار بعناية ما يُشبعُ العين قبل أن يستوفي حاجات المعدة، نرسم حلوى على شكل قَلب للغالي على المُهجة مَرَّة، وفي أُخرى بيضة مبتسمة أملاً في أنْ تُغري الطّفل فيتناولها…يغدو الأمر أظرفة تحمل العديد من الرسائل، كل نَسمة ورَسمة لها معناها المُراد إيصَاله.
فالغاية الأسمى من تحضير الطعام ليست تغذية الأجساد فقط بقدر ما تُعتَبر غذاءٌ ثمين للأرواح وشُحنَة كبيرة من الحماس والمَحبَّة تُكتسب وتُعطَى، إنه وسيلة عظيمة لترويض النفس، تُعلم الصبر والتَّأني، صِدق النِّية، الإخلاص في العمل، وأن البساطة عين الكمال.
مقالات مرتبطة
إنه علامة على الوُجود، فَلطالَما تَوقَّفنا عن المناداة بأمي فور الدخول للمنزل بمجرد أن رائحة طعامها الشهيّ وصلت أنفنا فتيقَّنا من وجودها، وما أكثر المرات التي عَلِمنا بأن مناسبة تُقام لمجرد استشعارنا نسمة الأكل… لو تأملناه لبَدى لنا أنَّه رابطة وثيقة بين الماضي والحاضر، كل طَباخ ماهر له حيل تلقَّاها من التاريخ، وكل امرأة بداخل وصفاتها أُمها، جدّتُها، وأُم جدّتِها…، تنتقل من جيل إلى جيل، وكأنه امتداد زمني يبقى أثره خالصا تحمله الطَّناجر والصُّحون لوقت طويل.
إن جدران المنازل تدرك صاحبها، فروائح ما يُطبخ تَنتشِر في كل الأرجاء لتُخبر كُل الزوايا بأن لِهذا العش ربة بيت تُحرِّك الطنجير بكل صدر رَحب. إنه أمر ليس بتلك البساطة التي يمكن ظنّها، بل مجموعة من العَواطف والمشاعِر التي لا يُستهان بها، هي جهد رُوحي لا يُقدر بثمن. قد تُعاتب أحدهم في طبخة، وتَشْكر آخر في طبق، تعبر عن المودة بأكلة، وعن الحب بكعكة… إن تعب تحضير وصفة تُذهبه بسمة ممن تَذوقَها، وعياء الوقوف بالمطبخ لساعات يُنسيه سرور الضيف بما قُدِّم له؛ فيظلُّ أعظم ما يُمكن للمرء مُشاهَدته هو لوحة الأهل والأحبَاب وهم يستمتعون بإنتاجات يَديْكَ التي يَتَّضح بها علامات المحاولات الكثيرة للوصول للإتقان، والحوادث التي يتعرض لها أغلب من يَلج عالم الطّبخ؛ إحساس عجيب بالفخرِ والسعادة، يُشعرك بالامتلاء وإن لم تتذوق شيئا مِما حضَّرْت، يكفي تلذذهم بالأكل، وكلمة ممزوجة بِلُقمة تعبيرا منهم على روعة ما تم تجهيزه لأجلهم.
لو أسعدني أحد يوما ولم أجِد كلمات كافية لإيفائه حقه فدون تردد سأصنع له طبق مما يُحب كرمز للامتنان، ولو ذات مرة كانت أحاسيسي أكبر مني فسأضعها مع بضعة مقادير ملموسة وأصنع منها إناء لذيذ دلالة على الحُبِّ والمودَّة.
إن الطَّهو فن والفن رسالة، هو موهبة وشغف، مُمارسَته تُسعد أكثر مما قد تُتعب، إنه النقطة حيث يتوازن الرُّوح مع الجسَد، يتنافسان على تقديم أجمل مَذاق ولَوحة لتدوين الفَرح والبَهْجة.
1xbet casino siteleri bahis siteleri