هل حدث ووجدتم أنفسكم وحيدين تماما، مجردين من كل شيء أو شخص، ومن كل صوت يمكن أن يكسر وحشة عزلتكم؟ أو فقدتم ذواتكم بين الحشود، وأضعتم وجهتكم وبوصلتكم في أرض نائية غريبة؟
كثيرا ما نسحق تحت ثقل أفكارنا، كثيرا ما تهاجمنا أسراب اليأس وتتوغل في أعماقنا، وعندما لا نجد من يفهمنا أو يسمعنا أو يشعر بنا، عندما لا نجد بمن نستنجد، نسلك طريق العزلة المظلم حتى نتوارى عن الأنظار، ونتخذ البعد درعا، البعد عن الناس، وعن أنفسنا وكل ما يذكرنا بوحدتنا. قد لا نختار الوحدة لكننا لا شك نتيح مجالا للحزن والألم.
أن تكون وحيدا بعيدا عن الناس لا يعني كونك كئيبا، فكثيرون من ألفوا صحبة أنفسهم ووجدوا فيها الراحة والمتعة التي ينشدونها.
الوحدة الحقيقية تلازم صاحبها أينما حل وارتحل، لا فرق سواء كان محاطا بالناس أو وحيدا، فقد استوطنت فؤاده واحتلت كيانه بالفعل، وجعلته أبكما عن توسلات روحه واستنجاداتها، وسيبقى مقيدا بأغلال البؤس ما لم يجد الحب والتصالح مع الذات طريقه إليه.
إذن ليس البعد عن الناس ما يخيف في الوحدة، فالأنام راحلون جميعا لا محالة، بل خلو النفس بذاتها، في مواجهة مباشرة مع ضعفها، عجزها وانكسارها، حين تتسلل المخاوف والآلام التي يوهم الناس نسيانها وتجاوزها، ويصبح الإنسان أعزلا أمام كل ما أرهبه يوما، خاصة مع غياب من ينتشله من كثبان أحزانه، ويبعثر إيقاع هواجسه كي لا تغدو سمفونية كآبة. يفضي كل هذا إلى حل وحيد لا مفر منه، أن يصبح المرء جليس نفسه، ورفيق روحه، كي لا يغرق أكثر في مستنقع الوحدة، ويصبح غريبا ضعيفا حتى أمام نفسه.
الحب، والصداقة، والمواساة والألفة، كلها أمور من شأنها إبعاد الكرب، والحزن واليأس الذي يقبع في قلوب النفوس الوحيدة، لكنها لا تقتضي بالضرورة انتظار بادرة من الآخر، لا يجب انتظار الشفقة من الآخرين بينما مفاتيح السعادة بين أيدينا، وهنا تكمن قوة الإنسان التي تنبثق من ذاته نفسها التي كانت مكسورة الجناح، القوة في مواجهة متاعب الحياة، والوقوف صامدا أمامها، فلم يكن الله تعالى ليري ذاتك الألم إلا وقد آتاك القوة لتحمله، والتغلب عليه، وترميم تصدعات روحك.
قد يتخلى عنك الكثيرون لكن لا تتخل عن نفسك، لا تقس عليها، لا تدفنها ما دام بداخلك أنفاس، أحلام وآمال، فما كنت لتذوق طعم السعادة لو لم تتجرع مرارة الوحدة، اسق نفسك بالحب والرأفة، وستراها تنمو وتكبر كرضيع يخطو أولى خطواته نحو العالم، قد يتعثر، قد يبكي، قد يسقط ويتألم، لكنه لن يستسلم وسيقف على قدميه في كل مرة، ويجدد الأمل بالسير بخطوات واثقة في درب أكثر إشراقا.
لا تسمح للأشجان بتسلق أسوار ضعفك، ومحو ابتسامتك وإحباط حماسك للحياة وشغفك، لا تسمح بأن يسلب منك حقك في كسب نفسك، والاستمتاع بنشوة الظفر بشخصك الجديد القوي، الذي حارب عبرات وجراح الماضي، ببسمات وبلسم الحاضر، للإيمان والثقة بالمستقبل.