ارتباط وثيق بين أهل المغرب والقدس وفلسطين كلها، ارتباط عقيدة وإنسانية وأهل، ارتباط يمزج بين القديم والحديث، ارتباط بين القرب والبعد، ارتباط روحي عجيب، جعلت من قضية فلسطين قضية وطنية تشابه في ثقلها قضية الوحدة الترابية على رأسها الصحراء المغربية، يشابه فلسطين اليوم أندلس الأمس، فلا تكاد تجد مغربيا إلا ويحمل أشواقا إلى الأندلس وإلى فلسطين في الآن نفسه، كأنهما وجهان لعملة واحدة، عملة الظلم والقهر والمقاومة، واستئصال شعب من أرضه واستيطان آخر عوضه بدون وجه حق.
ذاك التنكيل الذي قاسه أجدادنا بالأندلس أرض المغارب، والذي خلد ليس فقط في صفحات كتب التاريخ وصفحات مدن ومآثر ما زلنا نتباهى بها، ولا في أسماء أسر وعائلات أندلسية منتشرة بين تطاوين وأحوازها وشفشاوون قبلها، ثم طنجة وفاس والرباط، ومدنا وقرى أخر تتنسم فيها روائح الأندلس وعبقها، من جنان ولباس ومعمار وكلمات مكسرة تكسير عربية غرناطة، ترن سمعا في لهجات شمال المغرب، وموسيقى تطرب في الأفراح والمناسبات أندلسية وغرناطية خالصة، ليس فقط في أصناف الموائد والحلواء التي مزجت أذواقها بين عدوتي الأندلس والمغرب فعرف بها المطبخ المغربي لدى العالمين، ليس فقط في طقوس الأعراس والمناسبات والتاويل بالقاعدة الفاسية والهان والشان، بل أيضا في أغاني الطفولة … أغنية ما زالت تتردد ورددناها فرحين مستبشرين، نصدح بها بين الأحياء والدروب والزناقي والحومات في لعب ولهو وتفاخر، وما هي إلا أغنية حزينة تروي ما عانه الموريسكيون في طريقهم نحو المغرب قسرا وجورا وتهجيرا من أرض أجدادهم الأوائل، تقول كلماتها:
“تِكشبِيلة تِوليولا.. ما قتلوني ما حياوني.. غير ذاك الكاس اللي عطاوني.. الحرامي ما يموتشي.. جات خبارو في الكوتشي”
إذ يحكى أن سكان الأندلس كانوا يتحدثون بلهجة تشبه لهجة سكان بلاد المغرب؛ خليط بين الدارجة والعربية والأمازيغية والقشتالية، وهذا ما نستشفه في كلمات الأغنية، وأورد معاني كلماتها كما وجدتها في منشورات ومقالات تتحدث عن الأغنية، وهذا ترجيحي لما أراه الأصح في دلالات الأغنية:
تكشبيلة: ومعناها مدينة إشبيلية الإسبانية.
توليلولا: وتنطق في المغرب “توليو ليها” ومعناها سترجعون لها.
ما قتلوني ما حياوني: هو تعبير مجازي على شدة التعذيب الذي كان يتعرض له الموريسكيون من طرف الإسبان، فلا هم من الأحياء ولا هم من الأموات.
غير ذاك الكاس اللي عطاوني: هذه الجملة ترمز إلى نوع من أنواع التعذيب الذي مارسه الإسبان على الموريسكيين، وهو إرغامهم على شرب الخمر من أجل السماح لهم بالعبور نحو المغرب.
الحرامي ما يموتشي: والحرامي هنا يرمز به إلى القشتاليين اللذين هجروهم وسرقوا أرض أجدادهم ظلما وعدوانا.
جات أخبارو في الكوتشي: الكوتشي هي وسيلة نقل قديمة في المغرب وما زالت موجودة لحد الآن، وهي عبارة عن عربة يجرها حصان، وكانت الوسيلة التي يستعملها ساعي البريد “الرسول” في ذلك الوقت من أجل نقل أخبار المعارك والهزائم المتتالية للمسلمين، والتي كانت تنذر بالتهجير القادم.
وللأغنية بقية إلا أنها للأسف نسيت؛ لأنه لم يتم تدوينها، أو أنها دونت ولم يتم الاهتمام بها، ويمكن انطلاقا من الشرح السابق أن نركب جملة الأغنية، ونقول:
“مهما طال الزمان سنرجع إلى إشبيلية موطننا، ومن شدة التعذيب لم نعش ولم نمت، لم نبالي إلا كأس الخمر الذي جرعونا إياه مقابل العبور لعدوة المغرب، قدمت أخبار الهزائم والويلات والدمار الذي قام به سراق وطننا فزادنا ضيقا وألما”
فذاك تنكيل نقل جيلا بعد جيل فرددناه في الصغر وعلمنا حكايته في الكبر، هو ذاته ما يعيشه الفلسطينيون اليوم، هو ما يجعل المغربي له شوق مختلف عن أشواق باقي المسلمين للقدس وقضية فلسطين، شوق تجرعه قديما ولم تنساه الذاكرة الشعبية، فيكره كراهة الظلم والطغيان أن تصير القدس غرناطة الأمس وفلسطين أندلس الأمس، تبعدهما المسافة زمنا ومكانا، ويقربهما المأساة، تشهدها شجرة الزيتون المباركة لا شرقية ولا غربية، قدسيتها وشموخها وتجذرها في الأرض باقية بالأندلس زرعها الموريسكيين غربا، وبفلسطين شرقا أصبحت قصفة الزيتون رمز الأرض والمقاومة، وفي المغرب لا ينفك الزيتون عن وجدانهم غلته يقاس بها خير الأرض وبركتها، فهي إرث الأجداد والبركة جعلها الله تزين أرض فلسطين وأرض الأندلس والمغرب بينهما، فأهل المغرب وإن أبعدته المسافة عن مرسى الرسول قربه الوجدان والذاكرة وكرهه للظلم له.
وهذا ليس وليد اللحظة فعندما كانت فلسطين تحت الحكم الإسلامي، كان أهل المغرب لا يكتمل حجهم إلى بيت الله الحرام ببكة، وزيارة قبر الرسول الكريم بالمدينة المنورة، إلا بزيارة والصلاة في المسجد الأقصى بالقدس وزيارة قبر خليل الرحمان إبراهيم عليه السلام بمدينة الخليل، كأنها رحلة مباركة، في المكان محدودة، في الروح سرمدية، تصل الصلاة الإبراهيمية في الوجدان والروح، بين رسولين ونبيين عظيمين الأول خاتم الأنبياء وسيد المرسلين حبيب الرحمان، والثاني كان لوحده أمة سمانا المسلمين أب الأنبياء خليل الرحمان، وإلا نقص الحج واختل لديهم، وتوجت بتمسك صلاح الدين الأيوبي بالمغاربة الذين شاركوا في جيشه، وقد شكلوا ربعه في معركة حطين سنة 1187م وذلك لما عرفوه من رباطة جأش وقوة وبأس عندما يحمى الوطيس في البر والبحر معا، فأوقف لهم سنة 1193م حيا ملاصقا لحائط البراق الذي ربط فيه رسولنا الكريم دابته في ليلة الإسراء والمعراج، بالزاوية الجنوبية الغربية التي كانت منطقة سهلية، يسهل مهاجمة المدينة من جهتها، بينما الجهات الثلاث الأخرى للمدينة جبلية ووعرة … تمسكه بهم وإلحاحه لهم بملازمة المسجد الأقصى في ذاك المكان تحديدا لم يكن مجاملة أو مصادفة، وقد تعجب بعضهم إذ سمح للمصريين والعراقيين والشاميين العودة لبلادهم إلا المغاربة، فقال قولته الشهيرة ليفسر لهم ولنا تلك الرغبة الملحة: “أسكنت هنا من يثبتون في البر ويبطشون في البحر، وخير من يؤتمن على المسجد الأقصى وعلى هذه المدينة” وفي رواية أخرى قال: “أسكنت هناك في مكمن الخطر على القدس حيث الأرض اللينة؛ أسكنت قوما يثبتون في البر ويفتكون في البحر، أسكنت من استأمنتهم على بيت الله، أسكنت المغاربة”، فأصبح حي المغاربة على مدى قرون إلى أن هدمه جيش الاحتلال سنة 1967م، وانتزع موشي ديان وزير الدفاع الاحتلال آنذاك مفتاح باب المغاربة المفضي مباشرة لرحاب المسجد الأقصى المبارك بالقوة العسكرية؛ وهذا ليس مصادفة، قلت أصبح نابضا بالحياة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، وقبلة لأهل الغرب الإسلامي كلهم؛ أندلسا ومغربا ومن تونس والجزائر، ممن رغبوا مجاورة المسجد الأقصى والرباط قربه، وملتقى أتباع الصوفية والمذهب المالكي مذهب أهل المغرب.
ومن تقدير الله سبحانه وتعالى وحكمته وتدبيره؛ أن يكون الباب اليماني الذي ولج منه الرسول محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام في ليلة الإسراء والمعراج إلى المسجد الأقصى، حسب ما روي في الأثر المبارك عند حديثه لأصحابه عن ليلة الإسراء والمعراج قائلا: “ ثم انطلق بي حتى دخلنا المدينة من بابها اليماني، فأتى قبلة المسجد فربط فيه دابته، ودخلنا المسجد من باب فيه تميل الشمس والقمر، فصليت من المسجد حيث شاء الله”، هو ذاته باب المغاربة وهذا ما اتفق عليه علماء الأمة، باب المغاربة الذي منع اليوم دخول المسلمين منه، وأمسى مدخل الاحتلال قصد قمع المصلين بالمسجد، حي المغاربة وبابه ملاصق لحائط البراق، قريب من باب العمود، كان رباط المغاربة يحمونه وما زال أحفادهم أهلنا هناك مرابطين مدافعين مقاومين بما استطاعوا، فالقدس ومسجدها الأقصى مرسى الرسول وأولى القبلتين عقيدة، ثم عهدة عمرية تسلم مفاتيحها بنفسه عند الفتح الإسلامي أمة، فأمانة صلاح الدين الأيوبي أهلا مرابطين هناك، ثم إنسانية ظلم وعدوان لشعب مقاوم في أرضه ضد الطغيان والاحتلال، ووجع الأندلس وغرناطة آخر معاقل المسلمين بها، ذاكرة لن تمحى ساعين بعدم تكرارها، فمهما حاول بعضهم اقتلاع جذور المغاربة بفلسطين فلن يستطيعوا بإذنه سبحانه، ففلسطين والقدس في قلوبنا ووجداننا الديني والتاريخي، وآخر قولنا شعار غرناطة الغراء مملكة بني الأحمر الذي سطروه في بنيانهم ومساجدهم ودورهم وراياتهم: “لا غالب إلا الله“
سترجع القدس وفلسطين لأهلنا وينحدر الاحتلال إلى جحره، مهما وصلت إلينا أخبار القصف والقتل الممنهج والإبادة في غزة، والتضييق والسجن اللاحق في الضفة الغربية، والاقتحامات المتتالية في المسجد الأقصى، فلنا أهل مقاومون مرابطون لا يخافون تنكيلا ولا تعذيبا، مقبلين على الحياة الحقة، حياة الكرامة والعزة والحرية، لا حياة الذل والهوان والخذلان، لن تكون فلسطين أندلس الأمس ولا القدس غرناطة الأمس، وفلسطينيو الشتات سيفتحون أبواب دورهم التي هجروا منها منذ نكبة 1948م، فما زالوا محتفظين بمفاتيحها، كما احتفظ أهل الأندلس بمفاتيح دورهم، وشجرة الزيتون هنا وهناك شاهدة على ذلك، ووعد الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون.