الاستعمار ملّة واحدة

إن ما يقع من إبادة وجرائم حرب ضد الشعب الفلسطيني في غزة من طرف الكيان الغاصب، التي أدت إلى استشهاد اثني عشر ألف شهيدا لحدود كتابة هذه الأسطر، ونصفهم تقريبا من الأطفال، في أكبر معدل قتل أطفال يومي منذ بداية القرن الواحد والعشرون، يجب أن يَجعلنا نتوقف كثيرا للتأمل في أصل القضية وجذورها وغاياتها. فأن يُقتَل مائة وعشرون طفلا كل يوم في حرب إبادة مكشوفة، يتابعها العالم بأسره في بث مباشر، ولا أحدَ يقوم بخطوة حقيقية لإيقافها، وبعد مرور أربعين يوما على مسلسل التقتيل، هو حدثٌ يَجب أن يَستنفر وعينا، وكل قوانا الإدراكية، لعلنا نفهم شيئا من حقيقة هذا العالم؛ مَن يُسيره؟ وكيف يعمل؟ لأن ما يحدث لا يُمكن أن يكون مجرد حرب ضد حماس، كما يُصوره الإعلام الإسرائيلي وجزء كبير من الإعلام العالمي.

شخصيا، لا أستطيع أن أُنكر أن ما حدث زعزع الكثير من القناعات لدي، ودفعني إلى البحث والتنقيب في جذور القضية وملابساتها.

صحيح أنني سبق أن قرأت عن إسرائيل في مناسبات سابقة، وشاهدت الكثير من المحاضرات عن قيام هذا الكيان وقيمه وطرق اشتغاله؛ لكن الأحداث الجارية جعلتني أعيد النظر في الكثير من تصوراتي السابقة. ومن أسف، فالبحث في القضية جعلني أقف على وجود فقر كبير في المراجع العربية حول الصهيونية والأيديولوجية الإسرائيلية. ومعظم هذه المراجع، بالإضافة إلى قِلَّتها، تُركّز على جانب واحد في القضية، ولا تقدم قراءات شاملة لها، وهو الجانب الديني من القضية، وهو على أهميته لا يسمح لنا بفهم القضية فهما معمقا.

ولعل من أكثر مَن فهموا وتعمقوا في هذه القضية هو المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري في جل كتاباته عن الصهيونية واليهودية، وهو أكثر المفكرين العرب تركيزا واهتماما بها وكتابة عنها. وقد كانت الأحداث الجارية دافعا لي لقراءة موجز موسوعته المتكون من مجلدين كبيرين، ضمّنه زبدة ما ورد في موسوعته الكبيرة اليهود واليهودية والصهيونية. طبعا هناك مفكرون آخرون لهم كتابات مهمة عن هذا الكيان، إلا أنها متفرقة ومنثورة، ومنهم وائل حلاق وروجي غارودي وعزت بيجوفيتش.

مقالات مرتبطة

والتعمق في قراءة ما يجري وبسط النظر في جذوره، يقوده إلى نتيجة واحدة، وهي أن إسرائيل ما هي إلا ملحقة غربية تم توطينها في الشرق الأوسط، هذه المنطقة المحورية في العالم. وقد تم التوسُّل بالطابع الديني والعقدي لهذا الكيان من أجل توطين الطائفة اليهودية في المنطقة، بعد أن كانت منبوذة في أوروبا كلها، وتم طردها من كثير من الدول الأوروبية. فالمشكلة اليهودية، من هذا المنظور، هي مشكلة غربية، تم ترحيلها إلى الشرق الأوسط تحت غطاء ديني. وتم التمكين لها وتزويدها بكل ما تحتاجه من عتاد وأسلحة للقيام بوظيفة محددة، وهي خدمة مصالح الدول الغربية الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، والقيام بدور كلب الحراسة في المنطقة.

وبالتالي، فما يراد له أن يُفهَم على أنه مجرد صراع سياسي على أرض بطابع ديني عقدي بين المسلمين واليهود ليس كذلك، وإن كان جزء منه كذلك بلا شك. ذلك أن أية قراءة متبصرة وشاملة ستخلص إلى أن الأمر ليس بهذه البساطة، لأن اليهود طالما عاشوا بين ظهراني المسلمين وما زالوا. بل قد رأينا البعض منهم يخرجون في مظاهرات للتنديد بالمجازر الإسرائيلية، تضامنا مع الفلسطينيين، رافضين هذا الهمجية الإسرائيلية وتقتيل الناس بهذه الطرق البشعة باسم اليهود واليهودية. فهذا الوضع يجب أن يُوقع أصحاب هذه القراءة التبسيطية في حيرة، هل هي حرب بين اليهود والمسلمين على أرض؟ وكيف لهؤلاء اليهود إذن أن يتضامنوا مع الفلسطينيين المسلمين لو صح أنها كذلك؟

إن ما يقع على الحقيقة عدوان مادي مؤدلج، يسقي جذوره من عمق التاريخ الغربي، الذي ليس غريبا عليه هذا الطابع الهمجي وتقتيل الناس وإبادتهم عن بكرة أبيهم في مواطنهم. ويكفي أن نستحضر في هذا السياق كيف تمت إبادة ما يفوق مائة مليون نسمة من الهنود الحمر من طرف المهاجرين الأوروبيين إلى الولايات المتحدة الامريكية وكندا وفي أستراليا ونيوزيلاندا وأفريقيا، وخاصة في جنوب إفريقيا. وما الاستعمار الغربي الحديث عنا ببعيد. بل وما الحربان العالميتان عنا ببعيدتين.

لذلك، ونحن نشاهد بألمٍ شديد هذه الهمجية يجب أن لا نَغفل عن أنها أيديولوجية غربية مترسخة في الوجدان الغربي، وهي تهدد كل من ليس غربيا في هذا الكوكب. وليس غريبا أن تتحين فرص أن نُصبح ضعفاء لكي تَـنقضَّ علينا كفريسة سهلة. ولولا المقاومة، ولولا جهاد أجدادنا الذين حاربوا المستعمر بكل ما أوتوا من صبر وشجاعة، ولولا الاحرار في كل بقاع العالم، لربما كنا اليوم مجرد قطيع من البشر، تتحكم فينا قلة غربية “متصهينة”. وإسرائيل ما هي إلا وكيلٌ حربي للغرب بالمنطقة، الأمر الذي يفسر تلك الهَبّة الغريبة التي قام بها الزعماء الغربيون وهم يحُجُّون إلى إسرائيل بعد عملية السابع من أكتوبر، لتقديم كل أنواع الدعم المادية والمعنوية. وقد وصل الأمر ببعضهم أن يقوم بذلك بواسطة طائرة حربية مدججة بالأسلحة! من أجل ماذا؟ من أجل قتل الأطفال الخدج في المستشفيات.

لكل ما سبق، يجب أن يبقى التدافع قائما، ويجب أن تظل المقاومة بكل وجوهها مستمرة، لأن هذه المنظومة الفكرية الهمجية الغربية الميّالة إلى الهيمنة، وإن توارت للخفاء في الظاهر، فإنها تظل موجودة وتتخذ صورا مختلفة غير الصور العسكرية المباشرة، في الاقتصاد والسياسة والثقافة والإعلام وغير ذلك. ومن حيث إنها موجودة وقائمة، فإنه يجب أن تظل المقاومة قائمة. والسعي إلى محو والقضاء على كل التمايزات الهوياتية، والخصوصيات المحلية، وتحويل العالم كله إلى سوق واحدة، والناس إلى مجرد نسخ مكررة مستهلكة، لا تُفكر ولا تَفحص ما يُبث ويُذاع لها، بشكل يَجعلها أقرب إلى الأنعام منها إلى البشر المكرمين بنعمة العقل والتفكير. وبناء عليه، أجد أن تضامننا مع غزة ليس لأنهم مضطهدون فحسب، وليس لأنهم مسلمون مضطهدون فحسب، بل بالإضافة إلى ذلك، والأكثر من ذلك، لأن العدو واحد، يقتضي أن نكون صفا واحدا في مواجهته ومقاومته.

1xbet casino siteleri bahis siteleri