قانون الغاب

منذ بداية العدوان على غزة، أصادف العديد من الناس يتساءلون: لماذا الدول الغربية لا تُحرك ساكناً؟ بل لماذا هرعوا إلى إعلان الدعم غير المشروط لجيش الاحتلال منذ السابع من أكتوبر، ولم يتوقفوا عن ذلك إلى حدود يومه؟ مع وجود استثناءات لا تَنفي القاعدة.

ورغم أن هذا السؤال قد يكون مُلحّاً، ويفرض ذاته بنفسه، إلا أنني أجده يَغفُل عن جوانب أخرى للموضوع، إذ يبدو وكأن الذين يطرحون هذا السؤال يُقصرون استغرابهم على موقف الدول الغربية وغير الغربية على الحرب الفتاكة المعلنة، التي يشنها الكيان على قطاع غزة، وتُذيعها القنوات من كل بلدان المعمورة. والحال أن الأمر في جذوره وأصوله يتعلق بنظرة معينة للعالَم؛ ذلك أن هناك حروبا أخرى لا تَقل فتكاً أو خطورة تُشَنُّ على الإنسان بشكل عام في العالم، تقف وراءها الشركات الكبرى أساسا، دون أن يَقف في وجهها أحد لا من الدول ولا من الأفراد أو المؤسسات. وذلك في تكريس لحقيقة بارزة، وهي أن العالم اليوم تحكمه منظومة مادية صرفة، تحرّكها مصالح اقتصادية محضة، سواء تعلق الأمر بمصالح شركات كبرى، أو بمصالح دول كبرى. ومن أجل هذه المصالح، يُصبح الموت غير ذي قيمة، باعتبار أن القيمة التي تحكُم الأفعال وردود الأفعال هي الربح والسعي إلى التوسع الاقتصادي.

فإذا كان العدوان الذي يشنه الكيان اليوم على القطاع قد قتل لحدود كتابة هذه الأسطر ما يزيد على ثلاثة عشر ألف شهيد، فإن هناك شركات تقتُل ما يزيد على ثمانية مليون إنسان كل عام، وهي شركات التبغ. والتبغ يُباع ويشترى في كل مكان بدون أي تضييق. فلو انطلقنا من المنطق ذاته الذي بُني عليه السؤال المشار إليه أعلاه، يمكن أن نتساءل: لماذا التبغ بهذه الخطورة، ولا أحدَ يُحاول منع بيعه أو تجريمه؟ وإذا ثبت أن الوجبات السريعة تؤدي إلى السمنة، والسمنة تتسبب في قتل ما نسبته 2,7 مليون إنسان كل سنة، فلماذا لا يحاول أحد أن يمنع بيع تلك الوجبات؟ وإذا صح أن الخمور، بسبب سوء الاستعمال، تؤدي إلى وفاة ثلاثة ملايين شخص كل سنة، فلماذا ما زالت تُنتج وتباع بشكل متزايد ومطرد في كل دول العالم. وقس على ذلك شركات إنتاج الأفلام الإباحية وشركات القمار والرهانات، وهي كلها أمور تؤدي إلى اضطرابات نفسية وإدمانات وإلى الإفلاس بالنسبة لعدد كبير من الناس، لكن تجارتها في ازدهار مستمر.

فإذا كان الوضع بهذا السوء، ويَتضرر منه الإنسان الغربي بالدرجة الأولى، فكيف يُنتظر من الغرب دولاً وحكومات أن يكون له موقف مناهض لقتل الأبرياء في قطاع غزة، وهم في الأصل لا ينظرون إليهم إلا كأرقام. وحين يُنظر إلى هؤلاء الضحايا والشهداء كأرقام، فإن أكثر ما يمكن أن يموت بسبب هذا العدوان الإسرائيلي في نظر الغربي لا يمكن أن يتعدى مليوني شخص. وهذا الرقم لا يشكل أية قيمة في منظور هؤلاء، مقارنة بسواحل قطاع غزة المليئة بالغاز، فضلا عن القضاء عن آخر ما تبقى من المقاومة الإسلامية المزعجة، والتمكين لإسرائيل في المنطقة باعتبارها ملحقة غربية، بل مقاولة غربية تُصرَف لها الملايين كل سنة لأداء أدوارها المنوطة بها. والإبقاء على دولة الاحتلال كحاجز يفصل دول شمال أفريقيا عن دول آسيا.

هذا، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الحفاظ على حالة عدم التوازن وعدم الاستقرار بالمنطقة، يحول دون أية محاولة للنهضة في المنطقة العربية والشرق الأوسط. وتحقيق هذه الأهداف بالنسبة لهؤلاء تظل أكبر بكثير من مجرد حياة مجموعة بشرية يمكن القضاء عليها في شهور، إن بتقتيلها جميعها، أو بتقتيل البعض وتهجير البعض.

وتفسير ذلك أن جل الغرب اليوم يتبنى النظرية التطورية، ليس باعتبارها نظرية علمية، بل عقيدة أيديولوجية أيضا، يُوالَى في سبيلها ويُعادَى. وبالتأسيس عليها، فإن ما يحدث في غزة يشبه أن يكون كنزهة صيد يفترس فيها سبع غزالة. ولْتتأمّل في ذلك، فأنت حين تشاهد في فضائية متخصصة في نقل عيش الحيوانات في المحميات البرية، وتشاهد أسدا يصطاد حمارا وحشيا، أو نمرا يصطاد غزالة، لا تتساءل: لماذا لا يُحاول أحد حماية ذلك الحمار الوحشي أو تلك الغزالة؟ لأنك تستبطن في نفسك أن ذلك مباح، وأنه تقتضيه قواعد العيش في تلك البقعة وفي ذلك العالم، فالقوي يأكل الضعيف، وتستمر الحياة.

وتأسيسا على النظرية التطورية المادية، يمكن أن يقال نفس الشيء على البشر. ولذلك قد لا تُشكل مظاهر الفتك بالإنسان معضلة أخلاقية أو إنسانية بالنسبة لهؤلاء القادة الغربيين، باعتبار أن المتنفذين في تلك الدول، والذين يملكون سلطة اتخاذ القرار والتأثير فيها، ويُريدون الشركات الكبرى، هم في الغالب متخرجون من جامعات غربية، تتبنى النظرية التطورية كعقيدة، وقد لا يرون بأسا فيما يحدث، خلافا للإنسان العادي الذي ما زال يحتفظ بشيء من طبعه الإنساني السليم، ولا يَحسب كل شيء حسابا اقتصاديا ماديا محضا.

والثابت أن الإنسان الذي لا يتعهد نفسه روحانيا، حين يبلغ قدرا معينا من الثراء الفاحش ويضم إلى ذلك غواية السلطة، فإنه يُصبح لديه تبلُّد مشاعري، بل شذوذ عن الطبع الأصيل والسليم، بحيث يُصبح عنده مقبولا ما ليس بمقبول في الطبع والعادة، ومن ذلك مظاهر الوحشية والفتك بالإنسان. ولو أردنا أن نُشبِّه هذا الأمر بشيء، لاستعرنا له المشهد الأخير في مسلسل “لعبة الحبار” حين ظهرت في آخر المسلسل فئة من الأغنياء، يتمتعون بمظهر الناس وهم يموتون، ويظهرون مستمتعين بذلك، باعتباره وسيلتهم الأخيرة لاستشعار المتع والعيش. وقد صدق الحق سبحانه إذ قال: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6-7]

1xbet casino siteleri bahis siteleri