كيف استطاع الصهاينة تأسيس كيانهم عبر صناعة الأكاذيب؟!‎

554
لا يخفى على المتلقي لأخبار الحرب على قطاع غزة التي شنها العدوان الصهيوني أن يرى الكم الهائل من التناقضات والأكاذيب التي أطلقها منذ السابع من أكتوبر على العملية النوعية لفصائل المقاومة الفلسطينية؛ كاتهامهم بقتل الأطفال وقطع رؤوسهم وحرق الحوامل بل وبالتسبب في مجزرة مستشفى المعمداني وامتلاك قاعدة عسكرية تحت مستشفى الشفاء، وغيرها من الإشاعات التي فبركتها آلاتهم الإعلامية وروجتها القنوات الفضائية الأجنبية المنحازة لروايتهم التي عرفت تغييرات وتعديلات كثيرة، بسبب تضارب تصريحات القادة وتناقض جودة معلوماتهم واضطراب منشوراتهم على مواقع التواصل الاجتماعي بين تعديل وقص ومسح، مما تركت بصمة من الارتباك واضحة في ترتيب أكاذيبهم وتنظيم صناعتها أمام المجهر العالمي الذي صار يتابع بدقة كل الأخبار والحقائق التي تصدر من ثنايا الحرب.
وعليه؛ فإن آلة الدعاية الصهيونية تعد مصنعا هاما لبناء سمعة كيانهم والحفاظ على صورته القائمة على فكرة “التلاعب اللغوي” بالمفردات والمفاهيم والتي تشير إلى “إنشاء كتلة لغوية تتناسب مع صورة ذهنية تظهر فيها قوات الاحتلال مدافعة عن أمن مواطنيها وسلامتهم، باعتماد شعارات سياسية توافق الروايات الملفقة كآلية مهمة يعتمد عليها السياسيون وإعلامهم الغربي ذو النزعة الإمبريالية في تشكيل استراتيجياتهم ضد المقاومة وسكان القطاع، مع ما يرافق ذلك من جانبهم في تنظيم المؤتمرات لحشد الداعمين وإصدار البيانات والأخبار الصحفية المضللة ذات التحريفات اللغوية للسرديات مثل “مقتل” إسرائيليين بقصف “ميليشات حماس” مقابل “موت” الفلسطينيين كحالة طبيعية، حتى تُظهر مستوطني كيانها أمام العالم كضحايا مهما بلغت وحشيتهم في صب أشكال الموت على مدنيين وعُزل محاصرين لعقود من الزمن.
وهذه العملية هي جوهر التأثير الصهيوني لغويا، لأن السردية عندهم تركز بشكل عميق في إقناع الجماهير بشكل مباشر وغير مباشر، لبناء موقف أو اتخاذ قرار ما لصالح دعايتهم المعتمدة على صناعة وسرد الأخبار وتشكيلها للعالم “بلغة سياسية صممت لكي تجعل الأكاذيب تلبس ثوب الحقائق”، وهو تعبير دقيق للصهاينة صناع الكذب الذين يجيدون نسج لغة السياسة بخبث لكي يصنعوا مجموعة من القصص غير الحقيقية وتبنيها عالمياً بكل الوسائل الممكنة.
 المؤرخ اليهودي شلومو قال في عبارته الشهيرة داخق كتابه “اختراع الشعب اليهودي”: إن إسرائيل قائمة على كذبة، حيث كان البحث عن أرض لليهود، هدفا أصيلا للمنظمة الصهيونية -كما يشار إليه في كتاب المؤسس ثيودور هرتزل- وكانت مخططاتهم في بلدان كثيرة مثل الولايات المتحدة، وأوغندا، والأرجنتين، ومدغشقر ، والأحساء السعودية وأجزاء من الأراضي الروسية، وبعد فشل محاولاتهم اختاروا فلسطين وقدسها على وجه التحديد برضا بريطاني كوطن قومي دون غيرهم، لرمزيتها الدينية وغنائها التاريخي، ومكانتها المقدسة وموقعها الحيوي، حتى يبحثوا فيها عما يدعم اختلاقهم لكيانهم الغاصب.
وبالرغم من أنه كيان تأسس على الكذب والاحتيال، فإن الصهاينة يقارعون العالم ضد العرب والمسلمين وحتى المسيحيين بنفس الحجج -أو والتبريرات- عن “الأمن القومي”، معرضين عمن يطالبهم بشرح ما يقومون به من اغتصاب لأراضي الفلسطينيين، وعن معنى لتلك الإبادات الجماعية، والتهجير القسري لأهالي القرى والمدن، وهم يصرون في مروياتهم على قصة المحرقة، متناسين أن المعسكرات النازية هي مسألة تتعلق بهتلر ونظامه، وأن الفلسطينيين ليس لهم أي ذنب أو علاقة على الإطلاق .. متناسين أفضال الفلسطينيين الذين رحبوا بهم في شواطئ يافا وغزة وعكا وهم شرذمة مهاجرة من بطش النازية والفاشية -والتي كان يقطن في فلسطين قبل قدومهم، ما لا يتجاوز عن 5% من يهود- يعيشون جنبا إلى جنب مع الآراميين والمسلمين والمسيحيين، كإخوة فلسطينيين .. ولكن عباد العجل بعد أن عبدوا القوة البريطانية ودعمها، استبعدوا أهل الدار وأصحاب الأرض من الحياة وحرموهم من كل أشكال العيش بسلام.
وكمشهد سوريالي وفي بلد محتل، يقاوم فيه أبناؤه ضد الصهاينة بكل الوسائل، تحاول الماكينة المحتلة خلط الأمور من اختلاق القصص وإخراج السيناريوهات فتجعلها بطريقة ما تُفهم على أن الضحايا هم المعتدون، وأن المعتدين هم الضحايا. هذا الخلط يصيب الآن الأجيال الصغيرة في القطر العربي بعدما كان قد امتد لباقي العالم يشوش على الذهنية العامة لرؤية الاحتلال على أنه مجرد “صراع” فلسطيني – إسرائيلي تحت ذريعة الدفاع والأمن القومي، وظل هذا “الصراع” غير واضح ومغلف بعناية البروباغندا التي صُرف عليها مليارات الدولارات حتى صعود اليمين الصهيوني المتطرف في قيادة الكيان الحالية والتي أفسدت رواياته وأطاحت بسردياته السابقة من خلال إبراز وجودها المجنون في التنكيل بغزة وتقتيل أهلها العزل الذين يقاومون المعاناة بما استطاعوا رغم ضخامة الكلفة وحجم المآساة.
لقد عمد الكيان الصهيوني في تمرير رواياته وفبركته للأكاذيب على خطط كثيرة يواجه بها الإعلام العربي والإسلامي والمحطات التلفزية الأجنبية المضادة من جهة، ويمرر دعايته لبقية العالم من جهة أخرى عبر التحكم في كل ما يُنشر من الداخل المحتل والضفة الغربية، مُعتمدا على استراتيجية “حارس بوابة المعلومات” يفرض من خلالها رقابة عسكرية خانقة على الصحافة ومنع المهنيين من الدخول إلى المناطق الساخنة ووقف تراخيصهم وسحبها ومضايقتهم بالتفتيش ومصادرة وإتلاف المواد الإعلامية واستهدافهم في الميدان بين قنصهم أو قصف مقراتهم، حتى يمضي في حربه ضد أشكال المقاومة بعدما ضمن خنق وتقليص وتحديد المعلومات الخارجة من الميدان في إطار اعتماده خطة الراوي الوحيد من جانبه فحسب، وسياسة الأرض المحروقة دون سواه من السرديات التي تفضح أكاذيبه وزيف أخباره.
كما هدف الاحتلال إلى ضمان دعم النخب السياسية والفنية والرياضية المؤثرة على صعيد العالم، بغرض تجنيد ولائهم للتأثير على جماهير الشارع، مما يجعل الكثير من الشخصيات الشهيرة ومختلف وسائل الإعلام الأجنبية المنحازة تعمل على تكرار رواياته المفبركة بل إن منهم لا يعدون سوى أبواق متصهينة وغرف دعائية لتلميع الاحتلال، في المقابل يمنع كل الأصوات الداعمة للقضية الفلسطينية من حقها في التعبير عن تضامنها وتنديدها وفضحها لجرائم العدوان على منصات التواصل الاجتماعي مثل “فيسبوك” الذي أظهر نفسه كـ”فضاء مغلق بإحكام ” مثير للاستفزاز، لكل الحسابات الداعمة للقضية التي عمل على حجبها وتقييد منشوراتها والوصول إليها وتوقيفها وحذفها ضمن حملة تعتيم إعلامي أظهر فيها انحيازه الصريح كمنصة ترويج الأكاذيب الصادرة من الحسابات الصهيونية المتطرفة.
ولطالما كان الاحتلال في صناعته للأكاذيب يمارس حربا نفسية عصيبة ضد الفلسطينيين من خلال فبركة الشائعات بغرض تشويه المقاومة، من خلال استراتيجية التعتيم العدو وذلك بعدم منح الفصائل فرصة للدفاع عن نفسها وإظهارها مظهر الإرهابيين لا المقاومين المدافعين عن أراضيهم من جهة، وأيضا تثبيط معنويات الأهالي بغرض دفعهم للاستسلام وإظهار فكرة المقاومة كفكرة لا تتوافق مع واقعهم المعاش، والقبول بسياسة الاحتلال كواقع، مع إظهار قدراته كجيش متفوق تقنيا لا يهزم ولا مثيل له، هذا إلى جانب اعتماده سياسة الدعاية السوداء في رمي الاتهامات والأكاذيب الباطلة على المقاومة يهدف من خلال الدعاية إلى محاولة قلب الطاولة عليها وإظهارها كالمعتدي بدل الضحية، كما يستخدم تقنية “تكرار الرواية” بغرض التركيز الشديد على سردية من مصدر مشبوه قد لا يصدقه الجمهور، لكنها تستمر في تكرارها بشكل يجعلها مُعتادة وقابلة للتصديق كما وصف ذلك وزير الدعاية النازي “ليوزف غوبلز” في كتابه “الوقت بدون مثال”: ..إنهم يعملون بالمبدأ القائل بأنه عندما يكذب المرء يجب أن يكذب بشدة ويلتزم بالكذبة. إنهم يواصلون أكاذيبهم، حتى مع المخاطرة بالظهور بمظهر السخيف ..” وحيث إن هذا الدفع إلى تصديق الرواية المفبركة يأتي بسعي الاحتلال إلى تطبيع علاقاته على الأمد البعيد لجعل أكاذيبه أرضا خصبة لتمددها بشكل ناعم على حساب العرب من دول الجوار يراهن عليه في تسرُّب الرسائل إلى لاوعي المتابعين، وهذا ما أكد عليه الكاتب المصري “أحمد الدريني” في مقاله الساخر “أفيخاي بن أدرعي العارف بالله”، حين كتب إلى أنه محاولة لــ “تسريب صورة ذهنية مثالية وبرَّاقة للمتابعين العرب عن دولة الاستيطان، التي تفُوق دولهم جمالا وتنظيما، ويفُوق جيشُها جيوشَ بلدانهم انضباطا وتطورا.”
ومن الكذبة الأولى «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» بنى صهاينة هيرتزل إمبراطورية شاسعة من الأكاذيب تغطي بها جرائمها واحتلالها القبيح للأراضي الفلسطينية، بل وتفننوا في حرفتهم حتى استطاعوا إلى حد ما النجاح في نزع الإنسانية عن الفلسطينيين والإعلان بها صراحة دون ذرة خجل أو قلق على لسان وزير دفاعهم الصهيوني يوآف غالانت: “نحن نحارب حيوانات بشرية.”