انقلب السحر على الساحر!

في متابعتي اليوم للعدوان على قطاع غرة من طرف جيش الاحتلال، دائما ما أتساءل: كيف كانت مجريات الحرب ستسير، لو لم يكن هناك أسرى إسرائيليون لدى حماس؟ ذلك أن موضوع الأسرى كان السبب الأول في الضغط الداخلي على حكومة الكيان المتمثل في ضغط عائلات الأسرى والمظاهرات الشعبية الحاشدة للمطالبة باسترجاع الأسرى لدى حركة حماس. وهذا الضغط في تقديري كان السبب الرئيسي في إبرام اتفاق الهدنة وتبادل الأسرى، ووضع حركة حماس في موقف قوي في التفاوض، والذي نتج عنه الإفراج عن عدد من الأسرى الفلسطينيين، والذين يبلغ عددهم تقريبا سبعة آلاف أسير في السجون الإسرائيلية، منهم على الأقل مائتان دون سن الثامنة عشر، وثمانون امرأة. ومنذ عملية السابع من أكتوبر تم أسر أكثر من ألفين وسبعمائة وعشرين أسيرا جديدا من الضفة الغربية.

وقد كان لموضوع الأسرى جانب آخر مهم، وهو أنه سلط الضوء مرة أخرى على أمرين، قد كانا معلومين من ذي قبل، لكن تم تأكيدهما بطريقة أخرى، وهما وحشية الكيان وهمجيته من جهة، والوازع الإنساني والديني لفصائل المقاومة الفلسطينية في التعامل مع الأسرى، الذي ترتب عنه انبهار كبير من المتتبعين، وخاصة في الغرب.

بالنسبة للأمر الأول المتعلق بوحشية الكيان، فقد تمظهر، منذ السابع من أكتوبر، في العقاب الجماعي الهمجي للفلسطينيين، وأسر عدد كبير من المدنيين الفلسطينيين غير المسلحين، من دون ذنب اقترفوه، فضلا عن أن التقارير الصحفية تشير أنه تم التشديد على المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وكثير منهم سُجنوا من دون أية محاكمة أو تهمة موجهة إليهم. تتحدث الصحافة عن أن الاحتلال يمارس أنواعا شتى من التعذيب على هؤلاء السجناء منذ بداية العدوان، حيث يتم فتح الشبابيك على السجناء الفلسطينيين طيلة اليوم ليلا ونهارا، إمعانا في تعذيبهم وجعلهم يشعرون بالبرد القارس، كما منعوهم من الغذاء والدواء بكميات كافية، ويتم قطع الكهرباء عنهم في الليل، ومنعهم من الاتصال بينهم وبين المحامين والأطباء، فضلا عن منعهم من الخروج إلى ساحات السجون، وذلك في محاولة بائسة ويائسة للانتقام من كل ما هو فلسطيني، تعويضا عن الشعور بالخجل الذي شعرت به سلطات الاحتلال أمام المجتمع الدولي إثر عملية السابع من أكتوبر.

ويعرف موضوع الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية على العموم حكايات وقصص لا تنتهي من التعذيب والتنكيل من جانب سلطات الكيان، والصمود والثبات من جانب الفلسطينيين. ولعل حادثَيْ أسر أحمد المناصرة وإسراء جعابيص نماذجان دالاَّن في هذا السياق.

فقد تم أسر المناصرة في سنة 2015، وعمره حينها لم يتجاوز 13 سنة. وتتخلص ملابسات اعتقاله في أن مستوطنين هاجموه في منزله، وقتلوا ابن عمه أمام أعينه، وحاول مقاومتهم ليتم القبض عليه، وتلفيق تهمة “محاولة طعن مستوطن”. ومع أنه طفل صغير، فقد تم وضعه في عزل انفرادي سبب له اضطرابات نفسية عدة، وهو الآن يعيش تحت إشراف الأطباء النفسيين، وحالته النفسية خطيرة للغاية.

اشتهر الأسير المناصرة بعد المحاكمة التي ظهر فيها منهارا وهو يتم استنطاقه وممارسة الضغط عليه، وذلك في محاكمة علنية، دون مراعاة لحداثة سنه، وخرقا لكل المعايير الفضلى المنصوص في المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الطفل، والتي تنص، من بين ما تنص عليه، على ضرورة أن تكون محاكمات الأحداث سرية. ولكن من الألطاف الإلهية أن تلك المحاكمة كانت السبب في اشتهار قصة اعتقاله، وإثارة تعاطف الكثيرين من حول العالم، خاصة مشهد استنطاقه وهو يجيب أنه لا يتذكر أي شيء.

وأما الأسيرة إسراء جعابيص فقد تم أسرها سنة 2015 من طرف سلطات الاحتلال، لما كانت قادمة في طريقها من أريحة إلى القدس، حاملةً معها في سيارتها أنبوب غاز، والذي انفجر على بُعد 1500 متر من حاجز عسكري إسرائيلي، وتسبب في احتراق أجزاء من جسمها. كانت جعابيص تصرخ وتستغيث لإنقاذها واستقدام الإسعاف لنقلها إلى المستشفى، لكن جيش الكيان لم يُحرك ساكناً، بل بالعكس من ذلك تم اعتقالها بحالتها الصحية الحرجة، وتمت محاكمتها بتهمة ملفقة، وهي محاولة ارتكاب عملية انتحارية. وكان الحكم الظالم الصادر في حقها يقضي بـ13 عاما سجنا نافذا. وقد كان لها ولدٌ صغير لا يتجاوز عمره ثماني سنوات في ذلك الوقت. سُلبت منها سَبعُ سنوات من عمرها، لتخرج هذه الأيام من السجن وتجد ابنها قد أصبح في الخامسة عشر من عمره.

في مقابل هذه الوحشية الإسرائيلية الذي أعاد العالَم اكتشافها، تعرّف العالَم من جديد على التفوق الأخلاقي لعناصر المقاومة وعدم التكافؤ بينها وبين جيش الاحتلال. وتجلى ذلك في التعامل الإنساني مع الأسرى الإسرائيليين وتوفير ظروف جيدة لهم خلال مدة أسرهم. ولم يكن ذلك خفيا من لغة جسد الأسرى الذين تم إطلاق سراحهم في عملية تبادل الأسرى، وفي تبادل الضحكات والابتسامات والمصافحة والعناق. لقد كانت طريقة توديع الأسرى أكبر رسالة موجهة للعالَم، تُبرز تهافت الجهود المبذولة لتصوير عناصر المقاومة على أنها شر مطلق، وانضاف ذلك إلى شهادات الأسرى الطيبة في حق رجال المقاومة، ومن أشهرها شهادة المسنة الإسرائيلية التي تم إطلاق سراحها في بداية الحرب لدواعٍ إنسانية وصحية، والتي أكدت أنها تلقت منهم معاملة حسنة، وأنهم كانوا يُحضرون لها الدواء والطعام بشكل منتظم، بل وطاقما طبيا للإشراف على حالتها.

لقد كانت تلك الشهادة كافية في هدم كل الجهود والبروباغندا التي قام بها الاحتلال لتسويق روايته حول عناصر المقاومة في العالم الغربي وفي الداخل الإسرائيلي. لذلك كان طبيعيا أن يشعر بالإحباط من تلك الشهادة، حاوَل بعدها نسج روايات حولها بالقول أن تصريحها هو نتيجة ضغط من المقاومة عليها، ولا يمثل حقيقة أوضاع الأسرى لدى حماس. لكن العالَم سيتأكد من مضمون شهادة تلك العجوز بعد خروج الأسرى الآخرين في عملية التبادل، حيث عادوا في ظروف صحية ونفسية جيدة، وصلت إلى درجة أن إحدى الأسيرات مكنوها من الاحتفاظ بكلبها، مع أن بقاءه معها كان يمثل عبئا إضافيا، وكان يمكن التخلص منه بسهولة. وقد ذكرت بعض التقارير أن تقسيم الأسرى نفسه كان يتم على أساس التقارب فيما بين الأسرى من حيث الجغرافيا والميول والسن، وذلك حتى يشعروا بالألفة فيما بينهم. وكانوا يمكنونهم من حاجياتهم من الطعام والدواء بشكل كافٍ ومنتظم. واستطاعوا أن يحتفظوا بممتلكاتهم المنقولة التي كانت معهم، بحيث لم يُسحب من أحدٍ منهم شيء.

وحاصل القول أن موضوع الأسرى لدى حماس لم يكن مجرد وسيلة ضغط، بل كان أيضا مناسبة لتسويق صورة حضارية وإنسانية عن المقاومة التي لا تتردد في التأكيد على أن معاملتها للأسرى نابعة من أخلاق ومبادئ الحرب في الإسلام؛ كما أن عملية تبادل الأسرى لم تكن مجرد عملية عسكرية روتينية، بل كانت وسيلة لتمرير عدد من الرسائل، وتأكيد أن حركة حركة حماس في القطاع ما زالت قائمة، وأنها تفرض شروطها وقوانينها على الأرض، وبخاصة أن واحدة من عمليات تبادل الأسرى تمت في وسط قطاع غزة في ساحة فلسطين. وقد كان لكل ما سبق أثر إيجابي على القضية الفلسطينية في الرأي العام الدولي، جعلتْ الكثيرين من حول العالَم يُعيدون النظر في كل المغالطات التي تم تلقينُهم إياها في وقتٍ سابق.

1xbet casino siteleri bahis siteleri