-١-
تمضي الحرب على غزة إلى قرابة الستين يوما، شهداء كثر ارتقوا إلى ربهم مطمئنين، وآخرون يمشون على الأرض بثبات، رغم وجعِ الفراق، وجرحِ الذاكرة الغائر.
أنا الآن أكتب هذا النص مُتعَبا، وفي البال صوتُ تلك الأم التي فقدت صغيرها، في البال صَرخةُ الأب الذي بقي وحيدا، ينادي أمام الكاميرا بالخيانَة التي تعرض لها الشعبُ الأبي.
في البال ابتسامة دَانةَ، صوتها، حُبها للحياة، في البال وحدة الشاب الذي ترك أهله في البيت فلما عاد لم يجد شيئا، لا البيت بقي بيتا ولا الأهل قد عادوا أحياء. في البال لسْعة الذاكرة، أو جرحها الغائر.
في البال ما فيه، في البال غزة.. عزيزتي الصّادقة الثابتة على العهد.
يا أيها الوجه البعيد، قتلوك في الوادي، وما قتلوك في قلبي.
محمود درويش
٢-
هل تنتهي حُرقة الشوق التي تغلب قلب أمّ فقدت ابنها شهيدا بين الأنقاض؟ هل تتكفل الحياة بحنينِ فؤادِ فتاةٍ ودعت والدها بعد ليل طويل؟ هل تتلاشى غيومُ الحزن التي تحيط العَروس الشابة وقد تركتها يد الرفيق باكرا؟ هل تمر بسهولة الغصّة التي تُثقل صَدر أبٍ داعبَ جثث أسرته الصغيرة؟ هل تعود رائحةُ الحفيد إلى حضن جدّته وهي تمسَح دمعاتها الصامتة؟ هل يغدو اليأس الذي يتسلل نحو قلبِ شابٍّ فقدَ صديقه، أملا عظيما؟ هل تَحط عصافيرُ الحُب مجددا على صدر الفتى بعد دفن والدته؟ هل تُنشد الأختُ أهازيج العُرس دون رائحةِ الأمهات صباحا؟ هل تتزين الفتاةُ بالحناء بعد أن كانت يديها ذات أمسٍ مخضبة بالدم؟ هل تعود رائحةُ البحر كما كانت قبل الحرب؟ هل تصبح رائحة البحر مفعمة بالحب؟ هل تعود الحياة كما كانت!
أيها المحتل، أنت تسمع أسئلتي، أتسمع صُراخ الأبرياء، أتضحك من جرحي، أيُمتعك مشاهدة دمي يسيل في الأرجاء؟ أيها الدخيل بيننا، هل تسمعني؟
-٣-
في البال ذاك الفتى الفذ الذي يحمل على عاتقه وصيةَ الوطنِ من جديد، في لحظةٍ واحدةٍ يمتزجُ الوداعُ بالبدايات، أي شيء هذا!
رحل الرجلُ الكبيرُ، الأبُ الصادقُ، وفي نفس اللحظة يولد ثائرٌ جديد، وطنٌ لا ينتهي، كالزرع، لا تُقطع ساق سنبلة حتى تملأ الأرض بذرا.
أنا في الحربِ العوان.. غير مجهولِ المكان أينما نادى المنادي… في دجى النقع يراني.
عنترة بن شداد
أيها الدخيل بيننا، هل تقرأ كلماتي، هل تَسمع صوتي؟
يولدُ الفتى من جديد حين يموتُ أبوه، يغدو فجأة شخصا آخر، أثقيلة هي الوصية؟ بين الركامِ تنبتُ يد تعلو سبابتها عاليا، بين الركام يَنبت الوطن..
في البالِ صورةُ البيت المهدم، في البال صورةُ الحطام، حطام حطام حطام، خَراب يعقبه خرابٌ، ووطنٌ يزرعُ وطنا، فنحنُ هنا باقون، يولد من كل ميت لنا حي.
أيها الدخيل بيننا، هل تسمعني، نحن نجعل لك مقبرةً بيننا.. فاحمل أثرك وانصرف.
في البالِ غزةٌ الثائرة، في البال قلبي؛ تسألني هل تعود الحياة كما كانت؛ لن تعود، بل تغدو أجمل.. ينبت من بين الركام الوردُ، ويكبر في الصدر صدى الحب اللامشروط؛ رائحة الماضي تحدث الحاضرين أن المستقبلَ مُشرقٌ.
ذاكرةٌ مجروحةٌ، لكنها قادرة على معالجة الجرح لا العكس، ذاكرة تُقبّل جبينَ من يتقبلها، فهي ما تبقى ممن رحل.
الذاكرةُ هي ما يجعلنا على قيد الحياة، الذاكرة هي نحن. بكل ما فيها من تناقضٍ، من أمل ويأسٍ، من فرح وحزنٍ، من قيد وحريةٍ، من جرح وحريةٍ، من دم وحريةٍ، من أسر وحريةٍ، من وطنٍ صادقٍ لا يفنى حتى يأذن الله. لون السماءِ بعد انقشاع سُحب الظلام يحدث المقهورين أن الحزن يزول، وأن الهموم تتبدد ويتلاشى الوجع.
-٤-
تكتشف فجأة أيها الوطنُ أنك قد نجوتَ من الموت لوهلة من الزمن، لكنك ما زلت تنتظره، فهو يمشي قربك، هو حاضر معك، قد شاهدته أكثر من مرة يمسك أيدي الأطفال والأمهات، وقد كانوا سالمين معه، أكثر صفاء، كانوا معه شهداء.
وأنت الآن تنتظره، لكنك تُحب الحياة، فتجري.. لعلك تكون من الشاهدين على الحرية. وفي جانبٍ آخر، ترى ابتسامة الصغار الأحياء تحيي الأمل في صدور الأرامل، ملائكة صغار وضع الله في محياهم السلام.
أيها الوطن، أنت حيٌّ في حكايات الجدات وهي تشد وثاق الشباب نحوَ الأعالي، صوتُ الزمن البعيد، عريقة تجاعيدك يا وطن، واضحة تفاصيله هذا الوطن. أيها الوطن، اثبت على الحق فانتصر، كن صادقا تبلغ حريتك.
أيها الدخيل بيننا، احمل اسماءك وارحل، فلا الأرض تقبلك ولا القلب راض عنك، فاحمل أشياءك وارحل.
عزيزتي غزة، قلبي عليك حتى يطمئن فؤادك.
– يابانجي.