إن استعادة الأحداث الكبرى في القرن الماضي، وخاصة منها الحربان العالميتان الأولى والثانية، يمكنه أن يعيننا في استجلاء الخلفيات الفلسفية والمادية التي تحكم العالم الغربي، ويحتكم إليها هذا الأخير، كما أنه يفيدنا في فهم الدعم الغربي غير المشروط لإسرائيل في عدوانها على الأبرياء في قطاع غزة. ولعل هذا من أبرز فوائد التاريخ، أعني أنه يُعين على فهم الحاضر وتوقع المستقبل. فلكي تفهم ما يجري في عالم اليوم أنت تحتاج أن تعود للوراء، لتقرأ التاريخ وتتأمل وقائعه وأحداثه، لتتأهل لفهم الحاضر فهما جيدا. وهذه قاعدة عامة، لا يخرج عن نطاقها محاولة فهمنا للقضية الفلسطينية ولتاريخ الكيان الصهيوني الطارئ في المنطقة. فيجب علينا العودة إلى الماضي للوقوف على جذور القضية وأصولها. كيف تولد هذا الكيان؟ وكيف أدت الحرب العالمية الثانية إلى نشأته؟ ولكي تفهم الحرب العالمية الثانية عليك الرجوع إلى الحرب العالمية الأولى، وهكذا تتسلسل الأشياء. وكلما أوغلتَ في قراءة الماضي، تحسن فهمك للحاضر.
وهاتان الحربان العالميتان تكشفان بوضوح عن الفلسفة المادية التي تحكم مواقف الغرب وقرارات قاداته ودوله. ولعل من عجائب الصدف أن بحثي في هذا الموضوع تزامن مع وفاة هنري كيسينجر، مؤسس المدرسة الأكثر رواجا في السياسة الأمريكية، وهي مدرسة الواقعية السياسية، أو ما يسمى بمدرسة الواقعية المنفكة عن القيمة. والتي تعني بمعنى من المعاني أن المصلحة يجب أن تتحقق، بغض النظر عن التكلفة القيمية والأخلاقية لهذه المصلحة. وهو المذهب التي تعتنقه السياسة الأمريكية منذ عقود، وتجلياته واضحة في دعم العدوان واستمراره على غزة.
وقراءة تاريخ الحربين المذكورتين، تَجعل الباحث يقف على حقيقة صادمة، وهي أن البشرية اليوم تعيش مرحلة شاذة في التاريخ؛ ذلك أنه على مر التاريخ كانت هناك حروب، وكانت هناك امبراطوريات حقيقية، بما يقتضيه ذلك من وجود مساحة جغرافية واسعة، وشعب كثيف، وجيش نظامي، وعاصمة تتمركز فيها الأموال، يتم ضم أراضي الآخرين بالاستلاء عليها، وجعلهم ينتسبون إليها بحيث يؤدون الجبايات والإتاوات لها. وهذا الأمر لم يعد كذلك اليوم، وهو مكمن الشذوذ في المرحلة التي نعيشها، ويتجلى ذلك في أمرين:
– أولهما أن هناك قطبا واحدا يحكم العالم؛ وهي الولايات المتحدة الأمريكية، في ظل التفاوت الكبير بينها وبين المنافسين الروسي والصيني.
– وثانيهما أنها لا تحتاج إلى ضم الأراضي إلى دولتها بالطريقة القديمة، بل هي استطاعت أن تتمركز فيها السلط والأموال، دون أن تحتاج إلى ضم هذه الأراضي، لأنها تستعمل طرقا مبتكرة في الاستيلاء والسيطرة.
إنه بدون العودة إلى التاريخ، والتمعن في وقائعه وأحداثه لن ندرك شذوذ هذه اللحظة التي نعيشها. ومن الطبيعي أن يبدو الأمر طبيعيا لغير المطلع على أحداث التاريخ. إنه لم يسبق في التاريخ الإنساني أن كانت هناك إمبراطورية واحدة تحكم العالم، ودون أن تكون تلك الأراضي التي تحكمها تنتسب إليها وتعد جزءا منها. أضف إلى ذلك، أن هذه الإمبراطورية ـ الولايات المتحدة الأمريكية ـ موغلة في الحداثة إلى درجة أنه لا تاريخ لها؛ وآية ذلك أن الساكنة الأصلية لهذه الدولة قد أبيدت، وكل من ينتسب إليها أو يقطنها اليوم تعود جذورهم إلى دول أخرى. إنها عبارة عن تجمع من المهاجرين والهاربين من بلدانهم، انفردوا باستغلال موارد قارة بأكملها، ليكتسبوا سلطانا وقوة على غيرهم، بعد أن كانوا منبوذين مطرودين في بلدانهم الأصلية في أوروبا.
ولعل هذا المعطى هو ما يفسر لماذا النجاح في الولايات المتحدة يتوقف على نسج قصة حوله وحكايتها، أو ما يطلق عليه بالإنجليزية Storytelling. إن حكاية القصة يبقى جزءا مهما من الشخصية الأمريكية الناجحة، قصةٌ من شأنها أن يقتنع بها الناس، وتكون مصدر إلهام لهم.
وأول القصص التي حبكوها كانت حول استحقاقهم للأرض التي غصبوها من الآخرين، وهي أنهم استولوا على تلك الأرض بمباركة من السماء، وأن الله اختارهم لعمارتها، وهو الذي استخلفهم عليها، وأوكلهم مهمة استخلاصها من كائنات لا تعرفه ولا تعبده. وقد كان ذلك المبرر الذي قدموه لقتل الهنود الحمر، والانفراد باستغلال تلك الأرض، بعد أن صاغوه في شكل قصة. وهذه القوة في الحكاية ألهمت دولا أخرى. وفي مقدمتها دولة الكيان الصهيوني.
فدولة الاحتلال الصهيونية سارت على ذات النهج، بل إنها استنسخت نفس القصة. فمقولة الشعب المختار، رغم أنها من المقولات اليهودية القديمة، وذات جذور دينية عندهم، إلا أن استخدامها الحديث ارتبط بالمهاجرين الأوروبيين الذي هاجروا إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وادعائهم أن الله اختارهم لاستغلال تلك الأرض الكبيرة والغنية، فقامت إسرائيل بإعادة حكاية هذه القصة، بدعوى أن الله اختارهم لعمارة تلك الأرض المقدسة.
وانسجاما مع الواقعية السياسية التي تعتنقها أمريكا مذهبا وعقيدة في سياساتها، كان لا بد من نزع القيمة عن النجاح، وفكِّ الارتباط بينهما، حتى لا تَحُول القيم دون الإنجاز. ولذلك أصبح النجاح عندهم مرتبطا بطريقة حكايته، ويصبح مُلهما ومرغوبا فيه متى صِيغ في قصة محبوكة بإتقان، وأُبرزت فيها عبقرية الفرد. ولا يَضره بعد ذلك إن كان ما تم فعله أو إنجازه قد تخللته أفعال غير أخلاقية أو إجرامية. فالنجاح المحبوك في القصة يغطي على الجريمة، ويصبح هذا النجاح المحكي بحد ذاته سلعة تباع وتشترى. إن القدرة على الحكي تغدو قيمة أعلى من باقي القيم، ولذلك لا تستغرب إذا وجدتً فعلا جرميا، كنهب ثروات الآخرين والاستيلاء على أراضيهم يحكى على أنه نجاح باهر؛ فالجريمة قد تُسوق على أنها نجاح بفضل القدرة الجيدة على الحكي، والتي تقتضي بالضرورة القدرة الكافية على التضليل والتدليس.
ويمكن أن نورد في هذا السياق قصة نجاح مادي، تعتبر نموذجا جيدا لما ذكر، وهي قصة جيفري ايبستين، الملياردير الأمريكي المعروف، والمتهم قبل انتحاره بالاتجار الجنسي في القاصرات والأطفال واحتجازهم في جزيرة، ودعوة كبار الشخصيات المؤثرة في العالم إليها. وقد اكتُشف أن له علاقات عدة مع شخصيات مشهورة ونافذة، ومنها: يهود باراك، بيل كلينتون، مايكل جاكسون، دافيد كوبير فيلد، ستيفن هوكينز، وأستاذ القانون في هارفاد آلان ديرشوفيتس، وهو ممثل إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، الأمير أندرو، ابن الملكة اليزابيت، دونالد ترامب، هيلاري كلينتون وغيررهم. وهؤلاء منهم من وُجه له الاتهام رسميا بالاعتداء الجنسي، والتحرش، والاعتداء على القاصرات، ومنهم من تحوم الشبهات حوله، وإن لم يتم توجيه اتهام له، بعد أنْ وردت أسماؤهم في التحقيقات على لسان المحقَّق معهم.
نعم، هناك تستر كبير على هذه الشخصيات، ونوع وطبيعة علاقاتهم بالمتهم الرئيسي جيفري ايبشتاين، صاحب الجزيرة المذكورة، والتي ينظم فيها الجنس الجماعي والجنس على القاصرات، ومختلف أنواع الشذوذ الجنسي. والمغالاة في الثراء، في غياب القيمة ومنظومة القيم، يجعل المرء يبحث عن أشياء عبثية، لم يسبق له أن جربها، والتي لم يجربها أحد من قبل.
إن هذا الشخص ــ جيفري ايبستين ـــ يمثل الشخصية التي تحدثنا عنها، وهي شخصية الإنسان الناجح ماديا، الذي له شبكات علاقات معقدة، ونجاحه المادي غطى على جرائمه، ولولا أن أحد ضحاياه قامت بالإبلاغ عنه، لما فُتح أو عُرف هذا الملف، ولكانت هذه الجرائم غير معروفة، ولمَا عُرفت الأسماء التي كُشف عنها وعن نشاطها وارتباطها معه، خاصة أنه ما زال يُـكشف عن أسماء جديدة ومتهمين جدد من كبار الشخصيات في العالم، من ممثلين معروفين في العالم، اوبرا وينفيري، توم هانكس، ديكابريو، وأشخاص آخرين كانت لهم سمعة طيبة وحظوة لدى الناس، وتقرأ كتبهم، بل إن عشيقته المذكورة كانت مشهورة بخطاباتها في تيديكس TedX، كامرأة ناجحة ومؤثرة، ورائدة أعمال، تجعل الكثيرين يطمحون في الارتباط بها.
إن الغنى والنجاح في الصيغة الأمريكية له هذه القدرة السحرية على إخفاء الجرائم والتغطية عليها، بل إن الانحراف القيمي يَجعل الفعل الجرمي في حد ذاته تجسُّداً للنجاح في بعض الأحيان، إنه الابتكار الجديد لأمريكا؛ أن تكون غنيا، صاحب قوة، يبيح لك فعل أي شيء، شريطة أن تكون قادرا على حكايته في شكل قصة أو رواية مشوقة، سواء كان ذلك متعلقا باستباحة أعراض الأطفال أو استباحة أراضي الآخرين والاستلاء على خيراتهم.
لكن، أمام غزة تسقط كل القصص، وتَفشل كل السرديات في محو الجرائم التي يرتكبها الكيان. وأمام غزة، سيُدرك العالم أجمع، أن هذه السياسة الأمريكية المنفكة عن القيمة تشكل خطرا على العالم، شرقا وغربا، وليس على غزة وحدها. وقد لاحت بوادر هذا الإدراك.