التاريخ عند ابن خلدون

3٬172

لقد عرفت الفكرة التاريخية أو دعنا نقل مفهوم التاريخ في الحضارة والتراث الإسلامِيَيْنِ اختلافاً وتطوراً، فهناك من جعل من التاريخ فرعا من الثقافة أو المعرفة خادما للعلوم الدينية، خصوصا علم الحديث وذلك بذكر أحوال الرواة والإلمام بسيرهم وأخبارهم. ويعتبر الإمام السخاوي هو الممثل الأول لهذا المذهب في كتابه “الإِعْلانُ بِالتَّوْبيخْ لِمنْ ذَمَّ أَهْلَ التَّاريخْ”، وهذا يرجع إلى مرجعيته الثقافية بحكم كونه عالم دين

لا شك أن هذه النظرة لعلم التاريخ تبقى ضيقة ومهونة من شأن هذا الفن ومكانته وقدره. أما ما يخص النظرة الثانية التي قدمت في التراث المعرفي الإسلامي للتاريخ فهي تلك التي بَلْوَرَها العلامة الكبير عبد الرحمان ابن خلدون في مُقَدِّمَتِهِ الشهيرة لكتابه التاريخي “كتابُ العِبَر وديوانُ المُبتدأ والخَبَرِ في أيَّامِ العَرَبِ والعَجَمِ والبَرْبَرْ وَمَنْ عاهَدَهُم من ذَوي السُّلطانِ الأَكْبَرْ”. إذ إنه قبل كل شيء اعتبر التاريخ علما مستقلا له منهجه وموضوعه الخاص وليس تابعا أو خادما لأي من العلوم الأخرى، سواء كانت دينية أو غير ذلك. فيقول في هذا الصدد واصفا علم التاريخ بأنه: «فن عزيز المذهب، جم الفائدة، شريف الغاية» وأنه لذلك «أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق» كيف لا يكون كذلك وهو حسب وصف ابن خلدون «يوقِفُنا على أحوال الماضينَ من الأمم والأنبياء، والملوك وسِياسَتهم» وفي هذا بيان صريح من ابن خلدون أن عملية التدوين التاريخي لا تقف عند فئة محددة من البشر، كرواة الحديث على سبيل المثال، وإنما تشمل أحوال الأمم بصفة عامة وما يتفرع عن هذه الأحوال من “توحش وتأنس وعصبيات وتغلب الناس بعضهم على بعض”.

ويقرر ابن خلدون كذلك بأن المؤرخ أو المشتعل بفن التاريخ يتوجب عليه الإِلْمامَ بِمعارف أخرى مختلفة ومتنوعة. ومن هنا يصبح التاريخ سيدا لا خادما أو مجرد وسيلة تستخدم في العلوم الأخرى كما ذهب إلى ذلك السخاوي وغيره. يقول ابن خلدون في هذا الصدد بأن المشتغل بعلم التاريخ: «يَحْتاجُ إِلى مآخذ متعددة ومعارف متنوعة». ثم يبرر ويشرح رأيه هذا قائلا: «لأن الأخبار إذا اعتمد فيها مجرد النقل، ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب، فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق». أي، حتى يحكم المؤرخ بصدق رواية تاريخية أو كذبها ومدى مطابقتها للواقع الماضي يحتاج إلى إتقان علوم ومعارف متنوعة كالسياسة والجغرافيا والاجتماع حتى يعرض الرواية على سياقها التاريخي، من ثم يحكم عليها، ولا يجب الاكتفاء بدراسة الرواية التاريخية بالنظر فقط إلى رواتها ومن ناقليها، وإنما يجب الحكم عليها باستخدام النظر العقلي كذلك.

ويزيد ابن خلدون من رفع مكانة التاريخ قائلا: «هو في ظاهره لا يزيد عن إخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأُوَل» أي- لا يتعدى كونه سَرْداً لحوادث الماضي. أما «في باطنه نظر تحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق» وهنا يكون ابن خلدون ساهم في تطوير علم آخر وهو ما يصطلح عليه بفلسفة التاريخ، وهو الحقل المعرفي الذي يعنى بتفسير تطور التاريخ الإنساني من منظور عام، وذلك بمحاولة اكتشاف القوانين أو السنن التي تحكم التاريخ الإنساني وإيجاد العلة المطلقة التي تسير التاريخ البشري، وفي هذا الإطار وضع ابن خلدون نظريته في العصبية التي تقرر حتمية سقوط الحضارات.

من الإسهامات الرائعة التي قدمها ابن خلدون في هذا الباب تكمن في نظري في عمق وعبقرية التعريف الذي وضعه لعلم التاريخ، إذ يعرفه بأنه «خَبَرٌ عَنِ الاجْتِماعِ الإِنْسانِيِّ» والعبقرية تكمن في تعريف ابن خلدون هنا أنه لم يحصر عملية السرد أو التدوين التاريخ على فئة محدودة ومعينة من البشر كرواة الحديث كما فعل السخاوي أو الحكام والقادة العسكريين كما فعل عدد كبير من المؤرخين السابقين، وإنما عملية التأريخ عنده يجب أن تشمل وتعم كل حدث وظاهرة نتجا عن الاجتماع الإنساني من فكر ودين وعلم وسايسة وحرب واقتصاد وغيرها من الظواهر الإنسانية، ومن هنا يصبح التاريخ أوسع آفاقا وأكمل وأرحب. ومما يجدر بالذكر أن هذه المسألة تنبه لها بعد ذلك الفيلسوف الفرنسي فولتير.

1xbet casino siteleri bahis siteleri