7 فوارق بين الثقافة الآسيوية والغربية
بالإضافة إلى مساءلة نظام عيشك، فإن السفر إلى الدول الأسيوية لا بد أن يحملك أيضا على القيام ببعض المقارنات، خاصة على المستويين: السلوكي والثقافي. لاسيما ونحن بحكم القرب من أوروبا، وبحكم الأواصر الاقتصادية والسياسية والتاريخية -المتمثلة في الاستعمار- لنا ارتباط أكبر بالدول الأوروبية، ومعرفة أوسع بثقافتهم. ولذلك فالعالم بالنسبة إلينا ينقسم إلى شرق وغرب، ونحن لسنا من هؤلاء ولا من هؤلاء. ولذلك حين تأتي إلى دولة آسيوية لا بد أن يثور فضولك للقيام ببعض المقارنات بين الأوروبيين والأسيويين.
شخصيا، علاقتي بالثقافة الأسيوية بدأت تنضج شيئا فشيئا، مع تسلسل تجارب السفر إلى دول هذه المنطقة، فقد سبق لي أن تعرفت على جزء منها في الهند وأندونيسيا واليابان، خاصة في اليابان التي حاولت أن أقف على أنماط السلوك والثقافة لدى شعبها.
وقد لاحظت أن ثمة فروقا كبيرة بين الثقافتين الأسيوية والغربية، هذه الأخيرة التي نحن أقرب إليها، ومنصهرون فيها إلى حد بعيد، لأسباب كثيرة، منها أننا لم نستطع أن نحافظ على تمايزنا الثقافي في العيش والتفكير، إذ ربما نظن أننا لكي نتقدم ينبغي أن نشبه الآخرين، وأن نعيش بالطريقة التي يعيشون، وأن نقتفي آثارهم قدما قدما وخطوة خطوة، وكأن مسيرة التاريخ أحادية الخط، يسير في اتجاه واحد، والجميع يجب أن يمر من نفس المسار ويخطو نفس الخطوات. نعم، هناك جانب من “تمغربيت” لم تضمحل بعد، لكنها غير مؤثرة في الحقيقة في تحديد نمط العيش الذي نعيشه.
وبالعودة إلى المقارنة بين الثقافتين، لاحظت أن الأوروبي أكثر تمركزاً حول ذاته، ولذلك تجده في التعبير عن آرائه يستعمل أسلوبا مباشرا معبرا عن الذات، خاصة في المواضيع الجدلية والخلافية، وكأنه يفرض رأيه وشخصيته، بخلاف الآسيوييين الذين لا يعبرون عن آرائهم بطريقة مباشرة، بل دائما تجدهم يحاولون استعمال صيغٍ وأساليب أكثر تواضعا ونسبية، وخاصة في الموضوعات الخلافية.
والأوروبي باعتبار اعتداده بنفسه هو شخص فرداني، لا يقدم أحدا على نفسه وعلى أهدافه ومصالحه وحاجياته، ولا يلتفت للآخرين عندما يتخذ قراره، ولا يكترث كثيرا لآرائهم. عكس الأسيوي الذي يرتاح أكثر حين يكون عنصرا ضمن مجموعة، ولذلك يميل إلى معرفة آراء الآخرين، ومشاورتهم.
وانطلاقا من تمركزه حول نفسه أيضا، يرى الأوروبي أن الغرباء الذين يأتون إلى بلده ينبغي أن يتكيفوا مع ثقافة وقيم بلده، في حين أن الأسيويين يتعاملون مع الأجانب على أنهم ضيوف، مسموح لهم بأن يتصرفوا كيفما يشاؤون، بل يعفونهم من بعض القيود التي تُفرَض على المحليين والمواطنين. فيترك لك الحرية للتصرف، طالما أنك تصدر عن ثقافتك أنت، وغير ملزم بأن تتكيف مع ثقافته.
أكثر من ذلك، لاحظت هنا في تايلاند أن بعض الأوروبيين يتعاملون باستعلاء مع الثقافة الأسيوية، وينظرون إليها بعين الازدراء والسخرية، وأقصد هنا بعض الممارسات التي قد تبدو متخلفة وبدائية. فكأن الأوروبي ينظر بمنظار ثقافته، فكل ما لا يستظل بظلها، فهو خارج دورة التاريخ والحضارة، ولا يعدو من رواسب الماضي البدائي. ولذلك فالتزام الأوروبي بالقانون أيضا يخفت ويضعف هنا في دول شرق آسيا، ذلك أنه يرى أنه يستبطن أن لا حاجة إلى ذلك؛ فالالتزام بالقانون سمة للتحضر، ولذلك لا حاجة إليه حين نخرج من دائرة التحضر إلى دوائر أخرى، ما زالت تعتنق رواسب ماضوية. أو هكذا يبدو لي تصرف بعض الأوروبيين هنا. وقد أكون مخطئا.
وتفريعا على ضمور الأنا لدى الأسيوي، تجده أقل تعبيرا عن المشاعر والعواطف، وملامح وجهه أكثر استقرارا وثباتا، ولا تعبر عن حالته العاطفية، بخلاف الأوروبيين الذين يحرصون على التفاعل العاطفي المعبر عن حالتهم النفسية والعاطفية، حيث تظهر ملامح الفرح على وجوههم، كما تظهر عليهم علامات الغضب أو الحزن، وربما ضحكوا أو بكوا بصوت مرتفع. ولا أتذكر أنني رأيت شخصا هنا في تايلاند يقهقه بصوت عالٍ، بشكل يسمعه مَن حوله. ردود أفعالهم مؤدبة بشكل بارد جدا، والتعبير الخارجي بالجسد لا يظهر في تفاعلهم مع محيطهم. علاوة على ذلك، التايلاندي يمكن أن تثير غضبه، ومع ذلك يعاملك بثبات انفعالي خطير، وإن كان بالإمكان أن ينتقم منك بعد ذلك. فهو يكتم غيظه آنيا، ولكنه لا ينسى، وذلك خلافا لنا نحن من نملك مزاجاً متوسطياً، نغضب في الحين، ونقوم برد فعل لحظي، لكن ننسى بعد ذلك.
ولعل شيئا من هذا يرجع إلى كون الأسيويين ما زالوا يحافظون على العلاقات الأسرية الممتدة، ولذلك تظل قيم احترام الكبار سائدة بينهم بشكل كبير. فإذا كنت هنا في أحد مدن تايلاند، ستلاحظ أن هناك بطئا في تناول الوجبات وتقديم الطلبات داخل المطاعم، ذلك أنه غالبا ما يتم تناول هذه الوجبات بشكل أسري جماعي، خاصة وجبة الفطور، في حين أن الأوروبي يميل إلى تناول الوجبات بشكل فردي، ولذلك تجده مرنا في ذلك، ولا يقضي فيه وقتا طويلا.
فالعائلة بالنسبة للأسيوي شيء مقدس، في حين أن الغربي يرى أن ولده يحق له أن يستقل بنفسه وأن يفعل في حياته ما يشاء، وأن يختار القيم التي يريدها، ويتم تنشئة الطفل على أنه يجب ألا يعول إلا على نفسه، وأنه هو المسؤول لوحده عن خياراته وحياته. وأما في آسيا، فلحمة العائلة هنا أقوى، وما يزال دور الآباء قويا ومهما للغاية في حياة الأبناء.
ونتيجة ذلك، نجد الأبناء في الثقافة والبيئة الغربيتين، لا يهتمون ألبتة بآبائهم حين يكبرون، ويبلغون من الكبر عتيا، إذ يُرمَوْن في دور للعجزة، حيث يقضون ما تبقى من حياتهم وحيدين، إن هم ظلوا معا، وإلا فكل واحد يقضي آخر ما تبقى من حياته بئيسا كئيبا، وربما حاقدا على أبنائه. وليس مبالغا فيه، أن تجد أبا هرماً أو أما عجوزا تكاد تخرج من جلدها فرحاً بزيارة ابنها لها لمدة عشرة دقائق في دور للمسنين، بسبب مناسبة دينية أو عائلية.
بطبيعة الحال، يوجد تفاوت بين الدول، ولا يمكن التعميم بشكل مطلق، كما أنه قد توجد بعض الاستثناءات التي تخرج عن هذه القاعدة حتى داخل الدولة الواحدة، لكن العبرة بالغالب الأعم، أما النادر فلا حكم له.
ولعلنا نلاحظ شيئا من هذه القيم تسربت إلى الجالية المغربية بالخارج، وخاصة بالنسبة لهؤلاء الذين تزوجوا بأوروبيات، إذ تكون علاقة الأب بأبنائه باردة جدا، حتى أنه يبدو شيء من الحسرة على وجوههم حين يأتون لزيارة بلدهم وعائلتهم، ويرون العلاقات القوية والمتينة بين الأبناء وآبائهم، ويقومون بمقارنات مع علاقاتهم بأبنائهم، الذين تأثروا بالبيئة التي نشؤوا فيها.
وهكذا يحاول هذا الأب أو هذه الأم أن تضغط على أبنائهم لكي يحرصوا على الأواصر العائلية، إلا أنهم لا ينجحون في ذلك غالبا، حيث ينتهي بهم المطاف إلى القطيعة، خاصة حين يكون الأبناء قد تزوجوا بأوروبيات أيضا.
خلافا لهذه الظاهرة التي لا تخطئها العين في البيئة الأوروبية، فإن الأسيوي، يستثمر نجاحه في خدمة والديه، ويرى أن لهم كل الفضل عليه، وأنه لولاهم لما حقق ما حققه في حياته؛ فهو يدين بنجاحه لهم، حتى وإن كانوا هم في الواقع لم يكن لهم التأثير القوي في تحديد نجاحاته من عدمها.
وعلى مستوى العلاقات مع الغير، فيفضل الأسيويون أن تكون علاقاتهم وطيدة مع الآخرين، وهم يشبهوننا في هذه النقطة إلى حد ما، فالعلاقات التي يُكوّنونها تدوم لوقت طويل، عكس الغربيين الذين يحبون الإكثار من العلاقات، لكنها تظل علاقات سطحية ومحدودة للغاية، وغالبا لا تستمر لمدد طويلة. ولذلك تجد الأسيويين في محلات عملهم يَـبدون وكأنهم يشتغلون بفردانية، سبب ذلك أنهم لا يحبون الدخول في علاقات سطحية تفرضها بيئة العمل.
وعلى مستوى الحرص على المصالح داخل بيئة العمل، تجد الأوروبي يرى أن مصلحة الشركة أهم من مصلحة الأشخاص بما فيهم الزبون، والاهتمام بها أولى، عكس الأسيويين الذين يتمركزون حول الأفراد، فتجد العلاقات بالناس عندهم أهم من مصلحة الشركة.
وعموما، وعلى سبيل ختم هذه المقالات، فقد كانت تجربة هذا السفر ملهمة للغاية لي، حيث أتاحت لي فرصة استكشاف وتعميق معرفتي بجوانب متعددة من الثقافة الأسيوية. وإني كلما ازددت معرفة بهذه الثقافة صرت أرغب في الاستزادة من المعرفة بها، ليس عن طريق القراءة فحسب، بل عن طريق العيش والاستكشاف الشخصي المباشر، عبر الاحتكاك بالناس هنا في دول هذه المنطقة من العالم.
ويمكن القول بأن الثقافة الأسيوية ما زالت تقاوم العولمة وتقاوم محاولات مسخها وجعلها تنصهر في الثقافة الغربية المعاصرة، التي أصبحت تهيمن وتغزو كل الثقافات الأخرى، حتى صار العالم بدون ملامح، بعد أن كادت تتشابه كل الأمم، في ملبسها ومأكلها وطريقة عيشها. صار نظام العمل واحدا، ونظام الإجازات والعطل الدراسية واحدا بالنسبة لكل دول العالم تقريبا. وهذه المنطقة من العالم ما زالت تحتفظ ببعض شموخها من الناحية الثقافية، وإن كان من غير المؤكد أن تستمر في ذلك.