الجانب المشرق للحب

810

من منا لم يذق طعم الحب؟ فمنذ أن اتخذنا من أرحام أمهاتنا مأوى وملجأ نسكن إليه إلا واتخذت الفرحة والسعادة مكانا لها لا يجتث داخل الأسرة، انتظارا وشوقا لرؤية المولود الجديد، وتعم الفرحة في البيوت وتبتسم الوجوه وتلين القلوب من جديد، كأنه ما أتى إلا ليسد الشرخ الذي باعد بين الأفراد، من منا لم يذق قبلة تربعت على جبيننا فخرا بإنجازاتنا، ويدا تربت على كتفنا موقنين أنه دائما هناك من يحمينا دون مقابل وموجودون أيضا ليؤنسونا لحظة نشعر بها بوحشة وغربة الدنيا، فيقومونا لحظة اعوجاج، ويعينونا على النهوض من جديد لحظة السقوط، كيف لا ودمهم يجري في عروقنا يضخه القلب من أجل أن يحيا هنيئا ويبدأ في رسم السعادة وحفظ الذهب الذي غرسوه فينا من قيم، كل شيء يبدأ حتى قبل أن نطلق الصرخة الأولى لنعلن عن وجودنا مؤكدين أننا هنا أيضا لحمل الرسالة.

لكن، منا القليل أو حتى الكثير ربما قد ذاق طعم الهوى والوجد والشوق، ذاك الهوان الذي يجتاح داخلك، فلا تستمد قوة إلا بوجوده ولا تقف من جديد سوى عند تراقص آذانك على وقع كلمات تخرج من شفتيه، وترى قلبك هو الآخر قد حلق بجناحين يطير فرحة وسعادة لمجرد رؤيته، ويزداد نبضه معبرا عن حماسه. لقاء نسيمه الشوق وعبيره الإخلاص، فالبعد جعلهم في اشتياق وانتظار يوم اللقاء دون كلل ولا ملل عل أحدهم يرى الآخر فيملأ بواريز قلبه بصورة محبوبه، فتبوح العينان بما عجز عنه اللسان والبيان، ويرتوي القلب بالقلب، فيستمد كل منهم قوته من الآخر ويجمع أشلاءه التي تبعثرت نتيجة الرحيل.

غريب فعلا كيف أن الحب يحدث فينا تغييرات جذرية، يعيد صياغتنا بعد أن خضنا تجارب رسمنا بها شخصياتنا وبنينا بها أنفسنا وأرواحنا على الطريقة التي لطالما رجوناها، كيف أننا نغير من أفكارنا ومبادئنا وحتى طباعنا فقط من أجل ابتسامة ترسم على ثغر المحبوب الذي أنت قلبك أسير لديه، فتختلف الأولويات والأحلام، ويظل أرقاها هو وجود المحبوب حواليك فلا يفارق عينيك حتى وإن كانت المسافات تحول دون اللقاء فصورته دائما ما تتجلى أمامك، وصدى حروف نطقت بها شفتاه إلا ووجدتها تتردد في أذنيك فلا حزن يطال روحك ولا تعاسة تلم بك، كيف لا وهو المكون السري للسعادة.

الحب يجعلك هشا ضعيفا أمام من تحب قابلا للاحتراق من أجله، وقابلا للاحتلال من قبله، وتصبح التضحية بالنسبة لك خطوة جريئة سهلة يمكنك الإقبال عليها دون أي تفكير منطقي يذكر، فتسيرك مشاعر الهوى أو بالأحرى مشاعر الهوان فلا تقو على الرفض، وما كان يوما صعبا مستحيلا، يصير هينا سهلا يمكن تحقيقه في لمح البصر وإن كان إنزال نجوم السماء، كل يبدع بطريقته، وإن ضاق صدرك للخلق فإنه لا يتسع إلا له، وكلماته هي الأخرى تصير بلسما وشفاء لروحك العليلة، ونظراته هي ملاذك الآمن، ناهيك عن لحظة يهديها لك اللقاء، فترجو عناقا تهيم فيه وتنسى ما يدور حولك، فقط كلاكما، لكن لا عناق، أجساد فقط حلت محلها الأرواح فتبقى العيون ناظرة مستمتعة بلقيا الحبيب، مخافة الوقوع في الرذيلة، فكل يخشى على الآخر من نفسه وكل يخاف على نفسه من نفسه الأمارة بالسوء فتقع فيما لا ترضي ربها، وتسكب العيون ماء الحب ويرتوي الشوق والحنين.

يتجلى الحب في معانٍ كثيرة، وينتقل من مستوى لآخر، أولها الشغف وآخرها الهيام، وكلها كالبحر تحملك أمواج السعادة لأعلى وترقى بك كالجبال، ومن تنزلق فتهوي بك دون رحمة، هي مزيج من الحزن والفرح، تصفو مرة وتتعكر مرات أخرى، يبدأ الحب بذاك الشعور الذي يجتاحك فجأة أو الرغبة التي لا تقاوم تجاه شخص ما، فيصبح قلبك مغلفا بمحبوبك لا يرى سواه، وهذا ما يطلق عليه اسم الشغف، ويأتي الوجد وهو ذاك الشعور بالحب الذي ترافقه التعاسة والحزن من كثرة التفكير في المحبوب إلى أن تشعر بحرقة شديدة في الفؤاد وهو ما يسمى بالنجوى، وثم الشوق حينما يسافر المحب بالمحبوب بقلبه وعقله ووجدانه، ومن ثمة الهيام وهي مرحلة من الجنون والذوبان والاستسلام والضياع لا يرشده سوى محبوبه ولن ينار الطريق إلا بعينيه.

الحب هو الذي يوحي بنسمات عبيره في الأفق، هو الذي يعينك على الاستمرار، هو السبب الأسمى للعيش، هو السند والمؤنس، هو المضحي والصابر…كلها صفات تعينك على تجرع مرارة الحياة وتقلباتها الفتاكة، فيزهر الربيع قبل أوانه فتزهر العيون وتسكن القلوب بالقلوب، فلا تخشى شيئا سوى بعد المحبوب.

إن الحب هو الذي يحول المر حلوا، والتراب تبرا والكدر صفاء والألم شفاء والسجن روضة وهو الذي يلين الحديد ويذيب الحجر ويبعث الميت وينفخ فيه الحياة.
جلال الدين الرومي

قد يختلف الكثيرون في كل ما سبق ذكره، لكن يبقى الحب هو الأمل والنور الذي ينبثق من غيابات حفرة لطالما ظننت أنك لن تخرج منها منتصرا، وكأنك لم تكن يوما تعاني من ظلمات زرعت في نفسك الخوف والهلع من يوم غد. فكل يحتاج لمن يكتشف فيك تلك الخصلة التي تنفرد بها عن باقي البشر، وإن كنت في نظره متميزا عن باقي الأنام، إلا أن شيئا ما لم تكن لتشهره للناس سوى لمن يأسر قلبك، فيخرج أحلى ما فيك ويعينك على الصمود أمام تقلبات الحياة، فيبقى أقسى الكوابيس التي بإمكانها أن تراودك وأنت في خضم السعادة هي الفقدان.

1xbet casino siteleri bahis siteleri