رجل مذهبه الوجود ينفعل بالجود!

4٬639

ذاك رجل مذهبه “الوجود ينفعل بالجود” قولة لابن رشد الحفيد في حق «أبي العبّاس أحمد بن جعفر الخزرجي السّبتي أكبر أولياء مراكش وأشهر رجالاتها السّبعة، عربي الأصل، ولد بمدينة سبتة سنة أربع وعشرين وخمسمائة (524ه) توفي بمراكش في اليوم الثّالث من جمادى الأخيرة سنة أحد وستمائة (ت601ه). والقولة قِيلت عندما أرسل ابن رشد الفيلسوف، عبد الرحمان الخزرجي المعروف بابن الفرس، للاستخبار في شأن السّبتي أبي العبّاس، قال ابن الفرس: «بعثني أبو الوليد بن رشد من قرطبة وقال لي: إذا رأيت أبا العبّاس بمراكش فانظر مذهبه وأعلمني به، قال: فجلست مع السّبتي كثيراً إلى أن حصّلت مذهبه، فأعلمته بذلك، فقال لي أبو الوليد: هذا رجل مذهبه أنّ الوجود ينفعل بالجود وهو مذهب فلان من قدماء الفلاسفة، وكان إذا أتاه أحد بأي أمر أتاه، يأمره بالصّدقة ويقول له: تصدّق ويتّفق لك كلّ ما تريد».

هو ذاك سياق القولة الرشدية الدقيقة في مذهب القطب أبي العبّاس السّبتي، فما مضمون القولة وكيف ينفعل الوجود بالجود إذن؟ تمهيداً للجواب عن السّؤال المصاغ أعلاه نستحضر بعض صور حياة أبي العبّاس السّبتي التي يمكن أن تسهم في تحليل مضمون القولة الرّشدية فيه، كان رحمه الله “فصيح اللّسان قديراً على الكلام مفهوما حليما صبوراً، يحسن إلى من يؤذيه ويحلم عمن يسفه عليه، رحيما عطوفا محسنا إلى المساكين واليتامي والأرامل، يجلس حيث أمكنه الجلوس من الأسواق والطّرق فيحضُّ النّاس على الصّدقة، ويأتي بما جاء في فضليتها من الآيات والآثار، فتنهال عليه الصّدقات فيفرّقها على المساكين وينصرف.” فالصّورة هذه تجمع صفات عباد الله الزّاهدين في الدّنيا في أبهى حللها، فهو المتسامح الحليم والكريم كرم من لا يخشى الفقر، فلا عجب أن تَتَفَتَّق زهرة الجودية عمن هو بهذه الصّفات.

بناء عليه، نمضي لتحليل بعض ما ورد عنه من أخبار، والتي نَقَلت بعض تصوّراته للدّين ولا سيما فهمه وتفسيره لبعض أركان الإسلام بطريقته الخاصّة، وهي التّي سنقف عندها بالتّحديد، دون الخروج عن سؤال انفعال الوجود بالجود، فهذا من ذاك، فكيف كانت رؤية السّبتي لهذه الأركان الإسلامية؟ ونستهل ذلك بما قاله في معرض الحديث عن الصّلاة: “من لم يفهم الصّلاة لم يصل، فإنّ أوَّل الصّلاة تكبيرة الإحرام، وذلك بأن ترفع يديك وتقول: الله أكبر والمعنى الله أكبر من أن يُضن عليه بشيء، فمَن رأى شيئا من متاع الدنيا في نفسه أكبر فلم يحرم ولا كبّر للصّلاة، ومعنى رفع اليدين للتّكبير: قد تخلّيت عن كلّ شيء لك، لم أمسك قليلا ولا كثيراً، ثم يتكلم عن باقي أجزاء الصّلاة بهذه المعانى.” هذا الفهم لمعنى الصّلاة لا يخرج عن الوفاء لمبدئه الجودي أو (مبدأ الصّدقة)، فتكبيرة الإحرام مثل عملية انسلاخ تامّة من جلباب حطام الدّنيا وارتداء حلّة الزّهد والتّخلي عن كلِّ شيء لوجه الله بعد امتلاك وحيازة، وهذا التّجرد من الدّنيا إنَّما يكون من جهتي: القلب واليد معا، فليس المقصود تخلية الدّنيا من اليد والغرق بعدها في بحر الحسرة عليها! وإنّما المراد إجلاؤها من القلب تماما، فهذا من باب أولى لمن هو على طريق الزّهد في الدّنيا ، لأنّ عمل القلب عليه يبنى عمل الجوارج، أو كما قال ابن القيّم: “ليس الزّهد أن تترك الدّنيا من يدك وهي في قلبك، إنما الزّهد أن تتركها من قلبك وهي في يدك.”

إذا كان الأمر كذلك، فالعمل يقتضي القصد إلى اليقين المطلق بأن الله هو الرزاق ذو القوة المتين دون ارتياب أو شكِّ مزعزع مُقلقِل للإيمان، في امتحان عسير للنّفس البشرية المعاكسة لهذا المرتبة الزّهدية العالية والغائرة في آن واحد، والمحقِّقة لمعنى عظيم من توحيد الربُّوبية في الإسلام، وما حديث أبي العبّاس عن تكبيرة الإحرام بهذه الطَّريقة إلاّ بكونه يعتبرها بابا كبيراً وعظيماً يدخل منه المصلي إلى رياض الصّلاة وجنانها. ويسترسل السّبتي في النظر والتأويل فيقف عند كلّ حركات وسكنات الصّلاة، بحيث “كان يتأوّل الرّكوع على المشاطرة” أي تقسيم الِملك الخاص إلى قسمين أو شطرين شطر لمالكه ولغيره المحتاج شطر، وهي مرتبة تُبلغ في طريق المجاهدة الروحية وترويض النّفس، وقد استلهم أبو العباس فكرة المشاطرة من مؤاخاة الرَّسول ﷺ بين الأنصار والمهاجرين وأَمْره عليه الصلاة والسلام الأنصار بالمشاطرة، وقد وقف على هذا المعنى في بحثه الدؤوب عن تفسير قوله تعالى: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90] “فلم أزل أبحث عنها في التّفسير إلى أن وقفت على غريب التّفسير، وفيه أنّها نزلت حين واخى النبي ﷺ بين المهاجرين والأنصار وأنَّهم سألوا النّبي عليه الصلاة والسلام أن يعلمهم حكم المؤاخاة فأمرهم بالمشاطرة ففهمت أنّ العدل المأمور به هو المشاطرة”.

جاهد أبو العبّاس نفسه وارتقى مراتب العطاء من المشاطرة أو العدل إلى أن بلغ مرتبة الإحسان بعد مجاهدة شاقة وكذا فهمه الخاص للنصوص، يقول: “فانتقلت إلى هذه الدّرجة وعقدت مع الله تعالى عقدا أنّ كل ما يأتيني من خير قليل أو كثير أمسك منه سُبُعيْن حق النَّفس وحق الزَّوجة وأصرف خمسة أسباع لمستحقِّيها”. وكما تحدث السَّبتي عن الدخول إلى الصّلاة بالتكبير تركاً لكل شيء لله المانع المعطي، فكذلك يُئوّل “السّلام من الصّلاة على الخروج من كل شيء.” فالخروج من الصّلاة خروج من كل شيء لله، وكأن فعل الصلاة طهارة روحية تجعل المسلم يغتسل ويتطَّهر من كلّ وُحول النَّفس وهواها، وعليه يكون المسلم قد خرج من كل شيء يضيق عليه صدره إلى ما يشرحه ويوسعه بالمعنى الروحي المعنوي، وإذا كان الأمر كذلك فالطهارة من صفتي البخل والشُّح مشمولتين مستهدفتين في هذه التّخلية النّفسية أو الخروج من كل شيء كما يسميها السَّبتي.

وبناء عليه، فهذا الفهم للصلاة بحركاتها وسكناتها لدى أبي العبّاس السّبتي إنّما هو وليد فَيضان (المبدأ الجودي) الّذي تأسّس عليه فكره وعمله تبعا له، كما أنّه لا حديث له هنا عن النقاش الفقهي الناظر في صحة الصّلاة أوبطلانها، إنّما قوله يعبّر عن (رؤية صوفية) لما ينبغي أن تكون عليه الصّلاة لتحقق المعاني التَّعبدية العظيمة، فهي إذن رؤية تسير بصاحبها في مدارج السالكين المسافرين إلى الله بدون متاع. هذا عن الصلاة، أمّا ركن الصّوم فسرِّه “أن تجوع، فإذا جعت تذكّرت الجائع وقد علمت قدر ما يقاسيه من نار الجوع فتتصدَّق عليه، فإذا صُمْت ولم تتعطف على الجياع ولا أَحْدث عندك الصَّوم هذا المعنى، ما صُمت ولا فهمت المعنى المراد بالصوم.” وهنا يرصد سرّ فريضة الصّوم ويحصُره في الجوع الذي ينبِّه على معاناة المعْتَر الفقير، ويربط هذا السّر مباشرة بالمبدأ الجودي -الصّدقة- فمن صام ولم تتزعزع عاطفتة ولم يحركه ضميره تجاه معاناة الفقراء المحتاجين، فمعنى ذلك أنَّ المقصود من الصّوم لم يُحقَّق وإن جاع المرء طَوال النَّهار! إنَّما هو عملٌ أَجْوف فارغ ولا معنى له في نظر أبي العبّاس، ولسان حاله يقول: “ليس المقصود من شرعية الصّوم نفس الجوع والعطش بل ما يتبعه من كسر الشّهوات وتطويع النّفس الأمّارة للنّفس المطمئنة فإذا لم يحصل ذلك لا ينظر الله إليه نظر القبول” وما إجبار النّفس على التّصدق إلا معركة شرسة في سبيل تطويع النّفس الأمارة وترويضها لغاية الاعتياد على العمل الجودي، وهذا نوع من المجاهدة والرياضة الروحية عن السادة الصوفية، ويقول الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9-10].

ويُتابع السَّبتي حديثه مبيِّنا تصوُّره لمعاني أركان الإسلام، فيقف عند ركن الزكاة هذه المرة، فيقول إنَّ: “الزكاة فُرضت عليك في كل عام لتتدرَّب على البذل والإعطاء، وإلا ففي الأموال حق سوى الزكاة، وليس المقصود أنْ تُعطي في وقت مخصوص وتمسك في غيره” وانطلاقا من هنا يتَّضح أنَّ أبا العبّاس يذهب في كلامه عن حقِّ المال إلى أبعد من الحقّ المفروض شرعاً والذي هو ركن من أركان الإسلام، قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] ويعتبر الزكاة حقا مفروضا للتَّعوّد على العطاء والبذل المستمر، فيُلَمِّح بذلك إلى حق في الأموال غير هذا وأوسع منه، إشارة إلى قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 219] و”قال ابن عباس في تفسيرها، العفو: (الفضل من العيال)، وعن أبي هريرة عن النبي ﷺ: “خير الصّدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تَعُول.”

فالصَّدقة التي أشار إليها السَّبتي هنا هي ما فوق فَرْض الزكاة المحددة بمقدار والمؤقتة بوقت والتي هي ساحة تعود وألفة على الجود، وإلاّ فالقصد هو البذل المستمر من الطيب الحلال كعمل من أعمال البر العظيمة، والذي يمكن أن يقيد بضابط (الفضل من العيال) في رياضة ومجاهدة دؤوبة نحو تقويض حصون صفتي البخل والشح المذمومتين. ومن الزكاة إلى فريضة الحج يسير السبّتي، فيربط (الحجّ) بالتّذلل للخالق سبحانه وتعالى من خلال مظهر لباس الإحرام البسيط المتواضع والمشترك بين العباد (الحجّاج) وكذا اكتساء طابع المساكين والتَّجرد من كل مظاهر التّرف والرفاه، يقول: “وفرض الحجِّ سرُّه أن تَبرزَ في زيِّ المساكين بحلق الرأس والشّعث ولبس الأخلاق -النّعلين- والتّجرد من ثياب الرفاهية والتذلُّل لله تعالى وإظهار العبودية”. وإلى هنا ينتهي قول أبي العباس في رؤيته لأركان الإسلام، ليظهر من ذلك كيف سعى السّبتي لربط كل مقاصد الشعائر بمبدأ الصدقة الوفي له، فكل تفكيره لا يخرج عن إطار الجود وأسرته -العطاء والبذل والسخاء- التي هي أساس كل خير في الحياة، وما ضدّه الذي هو البخل إلاَّ أصل الشر، “فأصل الخير في الدّنيا والآخرة الإحسان، وأصل الشّر في الدّنيا والآخرة البخل” والإحسان عنده هنا فوق الزكاة والإنفاق على من تَجِبُ فيهم الصّدقة وفوق المشاطرة، وهو (سُبعين من سَبعة) أي إمساك حصتين وإطلاق خمسة حصص، أو ربما يُجسد مرتبة الإحسان عنده ما يقصده بالخروج عن كل شيء من حطام الدنيا لوجه الله تخليةً من القلب واليد معاً، ليعارك بهذه المرتبة الإحسانية العالية ما يعتبره أصل الشّرور الذي هو البخل، ويتحدد مفهوم هذا الأخير عنده بهذا الحدّ: “البخل: إذا حضر لأحدكم خاطر بالعطاء ثم عقبه خاطر آخر بالمنع فالتردُّد في الأول بُخل” وقد ورد في أخباره أنه كان يُغمى عليه عندما يسمع حدّ البخل المذكور “فأنشأت أحدثه إلى أن قلت له: التردّد في الخاطر الأول بخل، فصاح وغشي عليه، ثم قال: الصّفا من المصطّفى وصار متى ما يَذكر هذا الكلام يغشى عليه”.

إلى هذا المستوى الرفيع رفع السّبتي معيار الفصل بين الجود والبخل، فجعل الخاطر -الموحِي بالتردد- يَخطُر على قلب بشر عند كل عمل جودي سَبباً في نسف العمل من أساسه، ليَهْوِي العبد من علياء الجود والسخاء إلى قعر الشُّح والبخل الذي يحبس كل خير ونفع عن عباد الله، ومن صور ذلك أنّه “احتبس المطر في بعض الأوقات فقال أبو الحسن البَلَنْسِي الجنان لأبي العبّاس: أما ترى ما فيه النّاس من احتباس المطر؟ فقال له: إنّما احتبس لشحّ النّاس فلو تصدّقوا لمطروا، فقل لأصحابك من الفلاحين تصدّقوا بقدر ما أنفقتم تمطروا.”، وليس هذا فقط بل يمضي أبو العبّاس إلى أبعد من ذلك وفاءً لمبدئه الجودي فيئوّل الأمانة الواردة في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72] بالرِّزق الذي خصّ الله به كل مخلوقاته فجادت به وأنفقته لغيرها ولم تَبخل به، إلاّ الإنسان النّسي هو الذي صار خَازناً يجمع ولا يُنفق بل يُمسك شحّاً وبخلاً، فكان بذلك ظلوماً جهولاً، يقول السَّبتي: “الأمانة هي الرِّزق، فالسماوات أَعطت ما عندها من الماء وهو المطر، والأرض أَعطت ما عندها من النَّبات وغير ذلك ممَّا فيها، والجبال أَعطت ما عندها من المياه فأنْبتت وأبرزت ثمارها وما فيها من الأرزاق وأبَت إمساكها، فصار الإنسان خازنا لما يجتمع عنده فيمنع منه المساكين إنّه كان ظلوماً جهولاً.”

وفي السياق نفسه يمضي السبتي لتعرية هذا الشبح المؤرق -البخل- والذي قال فيه الرافعي في انسجام مع رؤية السَّبتي للبخل: “إنّ البخل وحده لَفي حاجة إلى نبيِّ يُصلحه” فهذا المارد الشَّديد صارعه أبو العبّاس طويلا بسلاحه: (المبدأ الجودي) وسعى مجاهدة في ترويض نفسه على العطاء والسخاء حتى لا يسقط في الفساد وإهلاك الحرث والنسل كما قال في تأويله لقوله تعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود: 116] مُحدثا أصحابه في مَجلسه قائلا: “إنَّا من أولى بقية، أتدرون ما هذا الفساد الذي ينهون عنه؟ هو إهلاك الحرث والنسل بالبخل المؤدي إلى الجدب.”

هكذا كانت مقارعة العلّة العظمى التي عمَّت -البخل- بالصّدقة والعطاء، فبها يُجْتَثُّ الشّح وتُزال العِلُلُ الجسدية، ومن أخبار ذلك ما رواه “أبو ابراهيم بن نجا قال: مرَّ بي أبو العبّاس السَّبتي وأنا بسوق الغزَّالين وهو يقول: من يعطي درهمين يُزال عنه وجع الرأس، فناولته درهمين، وكان يعتريني وجع الرأس، فوالله ما أصابني بعد ذلك وجع الرأس” فيكون بذلك أبو العبّاس السّبتي شيخ التّداوي بالصّدقة دون مزاحمة ولا مدافعة. هذه وغيرها من التفسيرات التي فسّر بها السّبتي رؤيته للوجود وكيف أنّه ينفعل بالجود في كل تمظهرات الوجود: في العبادة والعمل والحاجة والمرض. فالعبادة رياضة روحية ومجاهدة لترويض النَّفس على قدرة الإنفاق، إنفاق من لا يخشى الفاقة، والعمل كَسْب من هنا ورَدّ هناك بلا شُحّ ولا إمساك، والحاجة مقضية ببركة الصَّدقة والمرض طهور ببلسم الصّدقة.

وعليه، فكل مظهر من مظاهر الوجود إلا والجود يتخلّلها في فكر السّبتي، ومن أثر ذلك ما حفظته العادة والعرف بالمغرب الأقصى من طقوس (الظاهرية العباسية) الجودية التي ما زال العرف المغربي محافظا عليها إلى يوم الناس هذا، فالمغاربة ما زالوا مرتبطين بتقليد نبيل يجسدونه عندما يفتح أحدهم محلا تجاريا لعرض المأكولات أو المشروبات، بحيث تكون هذه الأخيرة في أول يوم عمل (التاجر) مجّانية، محسوبة على بركة (العبّاسية) فيستفتح باب الرّزق بمقارعة البخل والشّح وتكريس جودية أبي العبَّاس السَّبتي فتعم البركة ويكثر الخير.

وفي الختام، يمكن القول إنَّ مفهوم (الجود) في فكر أبي العبّاس السّبتي اتَّخذ موضعا مركزيا فيه، فالسَّبتي يدور مع الجود وجوداً وعدماً فأينما وجد أبو العبّاس وجد الجود، وإذا كان الأمر كذلك، فالوجود عند السبّتي كُلّه يتمحور حول الجود وبه ينفعل كما عبّر ابن رشد في قولته -الوجود ينفعل بالجود-، فالجود هو محرّك الوجود ومفعّله من ناحية الحركة لا الخلق في نظر أبي العبّاس، وبذلك يصير سؤال الوجود في فكر أبي العبّاس يُبحث من باب الجود والصدقة فقط لا غير، كنوع من المرابطة الجودية على الثغور الوجودية التي لا تُحصن إلا بالجود والسخاء والعطاء. فكل جواد متصدق موجود وجودا مستغرقا في توحيد الله تعالى ومتجردا من كل شيء لله وخارجا من كل شيء لله “ومعنى التّوحيد توحيد الله تعالى بالتّعظيم دون أن تجعل معه إلها غيره من متاع الدّنيا، وكل ما استولى على الإنسان فهو إلهه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23]” فيتحصل لنا من هذه الجولة في فكر أبي العبّاس السَّبتي عصارة وزبدة يمكن صياغتها قانونا ضابطا لحركة تفكير أبي العبّاس السَّبتي وكذا تفسيره للوجود وهو قانون: “أنا متصدّق إذا أنا موجود”.

1xbet casino siteleri bahis siteleri