جولة في الذكريات

كان جالسا يحتسي كوب القهوة الصباحي ويتصفح الجريدة كعادته، فإذا به يلمح ألبوم صور طفولته وقد اعتلاه الغبار، فهرع مزيحا إياه، ومضى يقلب الصور وقد اعتراه شعور بالدهشة رغم أن هذه ليست أول مرة يراها. لكن، ما لفت انتباهه أنه في كل مرة يدفعه ذلك الشعور الغريب -الذي لم يستطع بعد تحديد هويته- للنظر إليها يجد نفسه يشاهدها بطريقة مختلفة عن المرة السابقة، من زاوية مختلفة، وتثير انتباهه بعض الدقائق والتفاصيل التي لم يعرها انتباها في السابق، فيستغرب من نفسه وينتفض متسائلا: هل فعلا حدث ورأيت هذه الصور من قبل؟

كاد يجزم أن تقدمه في العمر وزيادة وعيه تزيد من حجم المعاناة وتضخم أبسط الأمور، فيتمنى يائسا أن يعود به الزمن إلى الوراء ويتوقف هناك وهو مدرك لاستحالة ذلك؛ لأن مشاهدة صور التقطت على حين غرة منه -كهذه- كانت بريئة، إذ لم يحاول من قبل ترجمتها واستقراء العينين، ولا حتى إعطاء مدلولات عميقة لكل حركة وسكنة فيها، بل اكتفى بالضحك سخرية من بعضها والتحسر اشتياقا وحنينا إلى البعض الآخر.

مقالات مرتبطة

ولكن الآن صار يرى في بعضها خلافا بين الأسارير المنفرجة عن ابتسامة دافئة والعينين اللتين تنحنيان حزنا وأسى، وما بريقهما الذي ظن في وقت مضى أنه من السرور إلا دموع تحارب لتنهمر! ربما له معرفة الآن بسبب ذلك! ولكن، هل كان مستوعبا فعلا لما يحصل حينها -في ذلك السن الذي كان أقرانه لا يجيدون بعد التمييز بين حروف لغة الضاد؟ وهل كان واعيا بما يكفي ليحاول إبعاد الشكوك عن عينيه بثغره المبتسم ذاك؟ أم كله من محض الصدف؟ يا لها من حيرة!

جال في خاطره أن هذه الصور كانت كالشاهد على بعض اللحظات الجميلة -رغم محاولة إقناع نفسه بالعكس-، ولو لم يكن محتفظا بها لما تذكر من طفولته إلا السيء والأسوء. لكن، شاءت الأقدار أن تكون هذه الصور بردا وسلاما على نفسه، ويجبر بها خاطره، وربما تنبهه لئلا تلتهمه نار النكران فلا تدع منه إلا رمادا لا رغبة له في الحياة؛ هذه النار التي تجعل الإنسان يعشق تقمص دور الضحية، بل يرى فيه الملاذ كلما عجز عن حل مشكلة ما؛ وكلما سنحت له الفرصة لمحاسبة نفسه على بعض الأخطاء التي يعلم في قرارة نفسه أنه هو المسؤول الوحيد عنها، فينكر أنه عاش بعض الأوقات الجميلة وإن قلت، ويفضل أن يحتمي بذكريات صباه التي لم تكن الأفضل ويلومها على كل ما يقترفه الآن من أخطاء، والأفظع من ذلك أنه في صراع مع ذاته؛ يحاول إقناعها غصبا أنه على حق.

1xbet casino siteleri bahis siteleri