النهوض بالذات ثم بالأمة

من منا يتذكر نطقه لأول كلمة؟ قراءته لأول جملة؟ أو بالأحرى كتابته لأول عبارة؟ طبعا لا أحد منا يتذكر ذلك، ولكن يمكن أن أجزم أن أغلبنا لا يزال يتذكر أول كتاب أو رواية قرأها، ذلك المؤلف الذي بث فينا الكثير وساهم في إحداث تغيير جذري على شخصياتنا بل وأكثر من ذلك دفعنا إلى هذا الإدمان الذي لا نريد الخلاص منه.

لا أحد منا يمكنه أن يحيى دون غذاء الجسد؟ فماذا دهانا حتى نهمل غذاء العقل؟ ولنعلم جميعا أن البطالة لا تنحصر فقط في الوظيفة بل تبدأ من الفكر. بالقراءة والعلم يبنيان بيوتا لا عماد لها والجهل يهدم بيوت العز والكرم، فنحن كأبناء هذا الوطن وأعمدت المجتمع فما أحوجنا لإشباع فضولنا بقراءة الكتب والتعكف في المكتبات والتواصل مع الأدباء، المفكرين والفلاسفة وكل من كتب بالقلم منذ أول حرف خط. كنت دائما عندما أحاور أبي يخاطبني قائلا: “ليت الفرص التي توفر لكم اليوم كشباب وفرت لنا عندما كنا في نفس أعماركم.”

مقالات مرتبطة

لماذا لا نسعى نحن كأفراد مسؤولين إلى أن ننشأ أنفسنا ونتخذ من القراءة ترياقا، ترياقا ضد الفشل، ضد الجهل، ضد الكسل، الإنحراف وأصدقاء السوء؟ ولماذا لا نحاول تأسيس جيل تأسيس أمة تعتبر القراءة ثراء المعرفة والفكر واللغة والخلق والأدب والذوق والمشاعر والجمال؟ سبق وقيل أن الجائع لا يستطيع تمييز جودة الطعام إلا بعد أن يشبع، نفس الشيء ينطبق على الذي يقرأ أول كتاب، فبعد قراءتك له ستدرك أنك كنت غافلا عن عوالم لا حدود لها وعن آفاق لا متناهية، وبعد نفظك الغبار عن كنزك الثمين ستغرق في بحر الكتب على اختلاف مجالاتها، لكن لا تقلق فهو عبارة عن غرق في النعيم وغوص يرفعنا للأعالي. ولنكن على دراية بأن عزف أمة عن القراءة ستكدس فيها الأفكار بموجب قانون العرض والطلب وينحصر الإبداع وتضمر الثقافة.

لا أزال أتذكر إهداء رواية “هي راودتني عن نفسي” للكاتب مروان البخيت الذي قال فيها: “عندما بدأت كتابة هذه الرواية بدأتها على أرضية غرفة صغيرة ومتواضعة بقلم أزرق قديم حبره متقطع، ثم نقلتها إلى جهاز حاسوب متهالك بعض حروف لوحته مفقودة في كل مرة أريد تشغيله لا بد لي أن أخلع نظارتي الطبية لكي أستخدم عصاها في الوصول إلى زر التشغيل الموجود في منطقة مجهولة ومظلمة داخل الجهاز وهاهي الرواية الآن تضمها يدا شخص لم أتشرف بمعرفته ولم أقابله يوما في حياتي.

القراءة والكتابة لا يحتاجان إلى كرسي حديث أو غرفة فاخرة تطل إحدى شرفاتها على منظر طبيعي خلاب أو بالأحرى إلى مكتبة ضخمة تضم آلاف الكتب، إن أي أمر ترغب في الوصول إليه وتحقيقه يتطلب شيئا واحدا فقط هو أن تبدأ الآن. إن كل ما علينا هو زرع فكرة وسوف نحصد فعلا، أن نزرع فعلا وسوف نحصد عادة، أن نزرع عادة وسوف نحصد شخصية، أن نزرع شخصية وسوف نحصد مصيرا. والجدير بالذكر أن طول المشوار الذي نحن بصدد حصد أول خطواته يكسبنا حب الهدوء والتواضع الشديد في حضرة الذين يعرفون أكثر ويقولون أجمل وأطول وأعم.

1xbet casino siteleri bahis siteleri