علاقات خطِرة‎

لطالما راودتنا أسئلة كثيرة خلال تعاملنا مع الآخرين، ولم نجد لها الإجابة الشافية الكافية إلا بعد طول أخذ ورد، وتأنيب ولوم، وتعب وخوض. لنجد أنفسنا وقد استنزفنا، وتآكلت مشاعرنا، واهتزت ثقتنا بذواتنا إثر الخطأ الذي ارتكبناه بالخوض والاستمرار في علاقات مشبوهة الود، مبتورة الصفاء، منزوعة منها الرحمة والاعتبار. فيتبادر حينها إلى ذهننا سؤال مفاده لم كنا نتجاوز كل هذا التجاوز، وكيف لم نعتبر وتمادينا في الاستمرار؟ ومن هنا سننطلق للبحث عن الجواب.

إن الشخصيات التي نصادفها خلال حياتنا، لا يمكن أن تكون نسخا متشابهة بنفس الخصال والمواصفات والقيم. فبعضها نأتلف بها ومعها، وأخرى نتنافر معها ولا نجد معها أي رابط مشترك يجمعنا بها، إلا أنها تظل هي الأخرى شخصيات بمعايير توافق غيرنا، وتتآلف معه، وهكذا تستمر السلسلة وفق نسق متزن ينطبق عليه الحديث الرائد في وصف العلاقات، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول “الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف.” أخرجه البخاري ومسلم

بذلك يكون نظام العلاقات قائم على تآلف الأرواح وتنافرها؛ وإنه لأمر منوط بتجاذب الأرواح إلى شبيهتها، وميلها لمن تتفق وإياه. لكن أحيانا قد يتصادف المرء بمن يحسبه شبيها له بيد أنه معذبا له فلا ينتبه ولا يعتبر، ستسأل كيف ذلك؟

نعم، إن المرء أحيانا يدخل في غمار علاقات يحسبها خيرا له، وهي شر له. تستنزف مشاعره وفطرته، وهو غافل عن ذلك لا ينتبه ولا يفطن له إلا بعد طول عناء وتجاوز وتغاض. الإنسان أحيانا يظلم نفسه ولا يظلمه أحد غيرها، حين يقبل أن يزج به في قفص الهوى والمزاجية، يتعامل معه كأنه ضمير مستتر تقديره التجاهل والجفاء، إن ابتغينا منه مصلحة هرعنا إليه راجين عونه ومساعدته، وإذا ما أخذنا حاجتنا ولينا دبرنا له وكأنه لم يكن، كأنه كان بالمصلحة فلم يعد الآن. لذا كان لزاما على الفرد أن يتعلم كيف ينطق كلمة “لا”، أن يقول “لست متاحا هذه اللحظة”، وإذا ما قدم يد المساعدة فلينسى انتظار المعاملة بالمثل، أو رد المعروف، كي لا يبني سقفا من سراب ما يفتأ يتهدم عليه. ليتعلم أن يقضي حاجة الناس من معارفه، أحبابه، أو ممن لا يعرفهم ابتغاء وجه الله وطمعا في مرضاته، لا أقل ولا أكثر، فمن جرى في حاجات الناس تيسيرا وتسهيلا قضى الله حاجته جزاء وثوابا. فما عند الله لا يضيع، وما عند الناس رهين مزاجهم ورغبتهم، إن شاءوا أعطوا، وإن لم يشاؤوا أمسكوا، بينما لا معطي لممسك، ولا ممسك لمعط.

إن كانت العلاقات قائمة على الأخذ والعطاء، فكيف يستمر الفرد منا في علاقة يشوبها عطاء دون أخذ، علاقة أساسها الأنانية والغرور، وعمادها الأنا وحده؟

أحيانا يصير المرء عبدا لمشاعره، يتبعها حيث تأخذه دون أن يلتفت، يمضي وفق خط وهمي رسمته له نفسه فتجده يتنازل ويتجاوز ويغض بصره ظنا منه أنه قد أحسن بذلك، بينما هو أساء. قد يقول أحد وهو يقرأ هذه الأسطر لقد ضخمت الوصف، وأضفت عليه الكثير من البهارات المجازية! لا بأس، فجوابي سيجده في الأسطر التالية.

مقالات مرتبطة

هناك صنف من الناس يسمى “الشخصية النرجسية”، هذا النوع من الشخصيات يصعب التعامل معه، وذلك راجع لعدة أسباب نذكر منها ما يلي:

أولا: الشخصية النرجسية لا يمكن أن تعترق بخطئها ألبته، فقد تخطئ في حقك وتجدها خبيرة في إلقاء اللوم كله عليك، حتى أنك قد تجد نفسك تعتذر مرغما عن شيء لم تقترفه فقط لأن السيد نرجسي أقنعك بذلك. هذا ليس مبالغا فيه، بل أنه واقع حق كم من شخص عانى ويعاني منه.

ثانيا: إن للشخصية النرجسية غرور يجعلها ترى الكل معجب بها، وأنها باستطاعتها أن تتلاعب بالقلوب مثلما يتلاعب الساحر بالنفوس، فلا تعلم أنه لا يفلح الساحر حيث أتى. وأن ما تفعله إنما هو نابع من نقص تعانيه في حياتها، وأنها بذلك تعبر عن ضعف وخصاص في الجانب العاطفي طالها في طفولتها، أو واكب مراهقتها ما غذى غرورها وجعله في مشكاة، والمشكاة داخل نفس، بينما النفس كأنها كير ينفخ به على الناس فيعلق بقلوبهم أبد الدهر. وهنا لا يمكن اعتبار هذه الشخصية سفاح أشر، بل أنها ضحية لمشاعر مكتومة، وماض مكبوت، وأحاسيس متراكمة أخذت حجما أكثر من حجمها مما ولد انفجارا داخليا تسربت على إثره السلبية إلى النخاع، وغدت رغبة الانتقام من الماضي وليدة الحاضر ليرسم بذلك مسار لمستقبل ملؤه الغرور والاستبداد والتلذذ بآلام الغير وضعفهم.

ثالثا: هذه الشخصية لا يمكن أن تجدها يوما تعترف بمعروف، أو ترد عطاء بعد أخذ، أو تتوانى في حبها لأحد بصدق ووفاء، بل أنها تأخذ وكأن الأخذ حق أجيز لها ووجب على غيرها، وتعطي فتمن عليك عطاءها وإن كان بمقدار ذرة، بينما في الحب لا تعرف حبا ولا ودا إلا همسا، وإن حدث ونالت قلبك، تفننت في تمزيقه وتعذيبه، فإن أخذته طمعا، سيأتي عليك يوم إلا وقد سحبته مكرها مرغما جراء ما ذقته من ويلاتها وغرورها. ذنبها أنها لم تذق الحب عفوا وبذلا، وربما قد فعلت ذلك يوما، وفعل بها ما تفعله حاضرا.

هذا النوع من الشخصيات يجعل الفرد يستمر أحيانا في علاقة عقيمة فقط لكي لا ينعت بالخذول، فتجده يرتدي العفو سترة دائمة حتى لو كلفه ذلك اعتباره وكبرياءه أحيانا، خصوصا إذا ما كان الفرد من النوع الذي يخشى إيذاء غيره أو ضعيف الشخصية يسهل التحكم فيه ببضع كلمة، وهذا من الأخطاء الوخيمة أثرها على النفس إذا ما اقترفها الفرد، فلا تعود عليه إلا بالمرض والتعب والتآكل النفسي، فينهش الموقف داخله، ويولد رغبة ملحة في اعتزال الكل، والتقوقع على الذات خوفا من التعاطي مع نسخ مشابهة للنرجسي، فيضع الكل في كفة واحدة يسبب خشيته من تكرار التجربة. في المقابل تجد الشخصية النرجسية نفسها تبحث لاصطياد ضحايا آخرين من أجل امتصاص مشاعرهم والتغذي على ضعفهم. ومن الصائب نعت هذا النوع من الشخصيات ب “مصاصي المشاعر” فهي تمتص مشاعر الغير وتتلذذ بذلك كطريقة للتمرد على ترسبات ماضيها، والتحرر جزئيا من قيوده التي يحيطها به، بيد أنها تظل سجينة للماضي أبد الدهر إن لم تفطن لدائها وتسع للعلاج مهرولة قبل أن يفوت الأوان.

لهذا على الفرد أن يحتاط في تعاملاته، ولا يكشف أوراقه كاملة لأحد كيفما كان حتى يتأكد من مصداقية ادعاءاته، ويتيقن صدقه وأمانه، ولا يضع مشاعره لأحد على طابق من ذهب حتى يكون أهلا لاحتوائها وصونها. فإنما البشر ألوان، وما يبديه الفرد من ود ساعة لا تأمنن استمراره أبدا، فمتى استيقنت الود حافظ عليه وصنه، ومتى وجدت ريح البطر امض ولا تدع لباطن نعليك أثرا، واحتسب الخير والله حسيبك، وافعل الخير بذلا ومدا، ولا تدع يدك ممدودة تنتظر ردا، بل جد بما جدت كرما، يكتب لك عند الله أجرا، واحفظ قلبك لمن يحفظه أهلا، وامسك مشاعرك فإن النخاسين نفرا، إن صادفوها أردوك عبدا، وغدت لحريتك بين أيديهم ثمنا، فاحذر ولا تغامر بها طربا لحديث أو طمعا، وكن في التمييز بين الخير والشر فطنا، فإن ما تحسبه حملا وديعا، يغدو لك ثعلبا مكرا، فكن حذرا ولا تلتفت، فإن الود له وجه واحد، وللصدق مهيع واحد، والقدر اثنين خير وشر ونحن بكليهما رضينا وآمنا دائما وأبدا.