الموت في شعر تميم من لاحق إلى هارب
كان الصراع مع الموت بمعنييه المجازي والحقيقي صراعا مريرا، صراعا خاضه الشعر الحديث؛ حيث حاول الشعراء التغلب على الموت لكنهم لم يقدروا، وحاولوا عقد هدنة معه لكنه لم يتنازل، وأرادوا الهرب منه فأدركهم..وبقي الموت يمارس سطوته المطلقة على الشعر وعلى الشعراء سواء، ليستسلم الشاعر لواقعه ورأى -معزيا نفسه- أن في الموت انتصارا، كما عند بدر شاكر السياب:
أود لو غرقت في دمي إلى القرار
لأحمل العبء مع البشر
وأبعث الحياة، إن موتي انتصار!
لكن حتى ذلك الانتصار الموهوم لم يطل حتى بدأ يخيم الانهزام واليأس على نفسية الشاعر الحديث، ليفر ويهرب من الموت بلا وجهة، فهرب تارة إلى الغاب مثل ما فعل جبران خليل جبران لأن: ليس في الغابات موت لا ولا فيها القبور
وهرب تارة إلى القفار يرنو إلى النجاة بنفسه: قالت اخرج من المدينة للقفر ففيه النجاة
ولم يفر الشاعر وحده فقط بل لحق به كل الناس، كما أعلن إيليا أبو ماضي: خلت أني في القفر أصبحت وحدي فإذا الناس كلهم في ثيابي. لكن بعد ماذا؟! بعد أن مات وهو ما يزال حي، وبعد أن أصبح “يدفن الأموات موتاهم”. لقد بسط الموت أجنحته على كل شيء، وأعلن انتصاره بجبورته القاهر على الشاعر وعلى نفسيته ووجدانه وعلى واقعه. وفي خضم كل ذلك يعلن الشاعر موته وسط الزحام، كما أعلنها صلاح عبد الصبور مدوية:
في زحمة المدينة المنهمرة
أموت لا يعرفني أحد
أموت… لا يبكي أحد
لكن تدارك الله هذه الأمة بشاعر نفض عنها غبار الهزيمة واليأس وانتصر لها من عدوها، وأخذ بثأر أسلافه الشعراء من الموت.
لم يعد الموت ضيف ثقيل، بل أصبح ضيف مرحب به نقدم له أعمارنا بلا استشارة منه، كما عند الشاعر تميم البرغوتي في قصيدته يا “مدرك الثارات” التي سنقف عندها، إذ يقول فيها:
يا مدرك الثارات أدرك ثارنا
واحفظ على أولادنا أخبرنا
قد اعتبرنا الموت ضيفا زارنا
قمنا وقدمنا له أعمارنا
وما استشرناه ولا استشارنا
نختاره من قبل أن يخترنا
بل أكثر من ذلك، لم يعد الشاعر يجلس ينتظر موته، ولكنه أصبح هو وشعبه وأمته، من بعده، يسيرون للموت، ليس سيرا عاديا أو مثقلا، بل في طرب وغناء، فقد أصبح الموت هو ذاك الصاحب المقيم وليس مجرد ضيف زائر:
نسير للموت كأنا في طرب
وقد صحبناه وطال المصطحب
حتى عرفنا ما قلى وما أحب
وتتطور العلاقة بين الشاعر (وشعبه معه فهو ممثل الشعب والأمة) وبين الموت، ولا يصبح الموت مجرد ضيف ولا مجرد صاحب، بل نسيب إذا ما انتسب. فنحن:
ذوو الموت إذا الموت انتسب
نحمي هواء السرو من أن يغتصب
وفي شعر تميم البرغوتي تنقلب الصورة، ويكون الشاعر هو الطالب والموت هو المطلوب، والشاعر هو اللاحق والموت هو الهارب، حيث يقول:
نطلبه إذا توانا في الطلب
ونلحق الموت لحاقا إن هرب
فإن تعبنا فهو أيضا في تعب
نخجل إلا في الهوى وفي الغضب
ولا نطيع ظالما وإن غلب
ويصبح الشاعر معلما يعلم الموت الآداب والأخلاق وحسن السلوك، ويعلمه أيضا أن يحترم المقامات والرتب، فهو:
إذا رأى الموت على البعد اقترب
وجره من النواصي للركب
وقال: يا هذا تعلم الأدب واحفظ مقامات الرجال والرتب
ثم في الأخير يصبح الموت نجاة، بل هو النجاة الوحيدة، وهو الذي يضمن الحياة الأبدية. وتصبح المنايا مغرية، ويعصي الشاعر النصائح ويختار أن يفدي من سبقه بالموت حيث تكون الحياة مؤلمة والموت هو النجاة الحقيقية.
رب نجاة بالحياة مودية *** وميتة لربها مُنجية
لقد نجح الشاعر تميم البرغوتي، هذا الشاعر الفلسطيني الفذ والفحل، حيث فشل الآخرون، واستطاع أن يتحدى الموت في شعره بل ويقهره، واستطاع أن يقدم لشعبه، الذي يواجه احتلال صهيوني من جهة وخيانة الأقارب من جهة، وصمت العالم من جهة ثالثة، شعرا يثير الحماسة وينهض بالهمم، ويكون بذلك قد أخذ بثأر الشعراء من قبله وقدم لشعبه صورة من صور المقاومة، المقاومة بالكلمة وبالشعر.. وهو القائل:
مذ قلت دع لي روحي ظل يطلبها *** فقلت هاك استلم روحي فما استلم
وإن بي وجعا شبهته بصدى *** إن رنّ ران وعشب حين نمّ نما
كأنني علم لا ريح تنشره *** أو ريح أخبار نصر لم تجد علما