غربة طالب طب

هي رسالة كتبتها إلى أحد أبناء قريتي الذي قدم لدراسة الطب في البلد الذي أدرس فيه، حيث أسبقه ببضع سنوات هناك. نولد بعد تسعة أشهر من الحمل، تسعة أشهر من العناية الإلهية، من تضحية الأمومة، في تلك الفترة لا ينقصنا شيء، لا غذاء لا ماء لا دواء.. لا يُنغّصنا شيء. 9 أشهر من التكوين بهدوء، من النمو بسكينة، من التغذية برويةّ تجهيزا لمعركة تسمى الحياة. تسعة أشهر تتشكل فيها أجهزتنا الحيوية، عظامنا وأطرافنا، تبث فيها الروح من خالق السماوات والأرض، تكتب أقدارنا أرزاقنا، شقيّ أم سعيد..

نخرج إلى الضوء مجهزين لحياة لم ولن تكون سهلة، يفرح بنا الجميع، يداعبنا الأهل، يباركنا الأقارب، يزورنا الجيران، نجد من يعتني بنا من قطرة الحليب إلى الدوش.

نكبر ونكبر نقع وننهض، نخطئ ونتعلم، نبكي، نبتسم، وننطق في وسط أمن يسمى العائلة، تحت سقف بيت دافئ -في أحسن الظروف- مع إخوة وأخوات ووالدين، هناك من يوجهنا يصححنا يمد لنا يد العون في شق طريقنا لنعبر هذه الحياة… نكبر ونكبر، تكبر أحلامنا، تزداد تطلعاتنا، تنضج محادثاتنا مع دواخلنا، تتوسع آفاقنا، ونبدأ.. نفكر بمن نحن؟ وماذا نريد من هذه الحياة؟ وكيف السبيل إلى ذلك. 

نختلف، نجادل إثبات وجودنا، نعمل، نبحث عن ما يميزنا، نجرب هوايات تعجبنا، نبحث عن قدواتنا، نقرأ، و لكننا ما زلنا تحت ذلك السقف المنيع.. حيث الجميع هناك، حيث الجميع هنا وحولنا.

نكمل سنوات المدرسة، نسعد بذلك لبرهة، معدل رائع، فرحة أهل وخلاّن، وعندما نصحو من سكرة الفرحة وينقشع ضباب الاحتفال، نجد أنفسنا أمام ذلك الباب الواسع، باب خروجنا من ذلك الحصن المنيع الذي تعودنا فيه الدفء اللجوء والحنان، نقف هناك على مفترق طرق شائك لا نهاية واضحة المعالم هناك، فقط علامات استفهام، وعلامات ضياع متكاثرة في أدمغتنا، فلا إشارات مرورية، ولا علامات تحذيرية في أي من السبل الكثيرة.

هنا وهنا فقط نبدأ فعليا رسم مسار حياتنا، تقرير مصائرنا بأيدينا، نبدأ خطواتنا نحو مستقبل مجهول، لا عزاء لنا سوى سؤال المولى التوفيق فيه، ورضى الوالدين.

ها أنت ذا صديقي استخرت واستشرت، بحثت واستطلعت، فكرت ثم فكرت في اختيار باب تدخل معترك الحياة منه، ورسى قاربك أخيرا في ميناء ذلك التخصص العجيب الواسع المهيب. يكفينا شرفا، وامتنانا لخالق السبع سماوات أن يسرّ لنا هذه الطريق، أن اختار لنا من كل ما يجول حولنا من آلاف التخصصات.. الطب..

الطب، كلمة إذا جردت منها “ال” تعريفها أصبحت حرفان، حرفان بينهما: ”ط” طلائع عالم لا ينتهي.. و ”ب” بيارق علم لا يفتأ عن الحركة ولا يتوقف عن التجدد، علم قال فيه الإمام الشافعي عندما تحدث في وصف عظم مكانته”: إنما العلم علمان: علم الدين وعلم الدنيا. فالعلم الذي للدين هو الفقه، والعلم الذي للدنيا هو الطب.” والطب علم متحركٌ يتطور باستمرار وبسرعة دائمة يحتاج إلى مطالعة وبحث دائمين لكي لا نتخلفّ عن الركب، وفي ذلك تحضرني مقولة لطبيب الأطفال الشهير “بيلا شيك” التي يقول فيها:

It is very difficult to slow down. The practice of medicine is like heart muscle contraction.. it is .all or none

الطب… رحلة شاقة عجز عنها الكثيرون، ولم ينلها كثير ممن تمناها وسهر ليالٍ وأيام متأملا خوض غمارها، وراودته الأحلام بعد الأحلام يقوم بها، وبكى وتألم آخرون لعدم قبولهم فيها.. هي أقدار خالقنا، مكتوب لهم برضاه أن يسلكوا دربا آخر، رحلة أخرى، أن ترسو قواربهم في ميناء أنسب، يوفقون فيها وبها تفتح لهم آفاق وثنايا أخرى.. و لكن ما أروعها وبروعتها ما أصعبها من رحلة هي التي انتهت بك في ميناء الطب، تبدأ أنت خوض غمارها التي تحبو فيها خطواتك الأولى.. في لياليك الأولى.. بعيدا عن الوطن والأهل والدفء والأصدقاء . بعيدا عن بسمة أمك، حرص أبيك، تواجد أخوتك.. آخ هي صعبة والله.. بل تبدو مستحيلة!

مقالات مرتبطة

تائه أنا.. أشعر أنني في اللامكان، في اللازمان، وفي اللاأمان..آلاف الأفكار والملاحظات والمخاوف تتخبطني، مئات الوجوه والملامح الجديدة التي لم أعتد رؤيتها هناك في قريتي بلدتي أو مدينتي.. عالم آخر أنا المسؤول الأول فيه والأخير عن نفسي، قراراتي، أوراقي، صحتي، دراستي، و أحلامي! لن أنس كم مرة تفقدت جواز سفري في جيبي!

كل هذه اللحظات والمعلومات الداخلة والخارجة، اللهجة الغريبة عني، رائحة المدينة، كل شيء كل شيء.. كل هذه التفاعلات التي يُديرها الدماغ في تلك الفترة الوجيزة من الزمن..! إنها صدمة! قد تأخذ أياما أسابيع أو أشهر لتتخطاها..بل وقابلت الكثير من الأخوة الذين لم يستطيعوا مجاراتها، فقرروا الرجوع إلى أرض الوطن، والبحث عن مرسىً جديد- لا انتقاد ولا تشكيك أو تضعيف- لكل منا نقاط ضعفه وقوته، مصادر تحمله ومجالات شغفه وقدرات تأقلمه، والذكي من يتعرف عليها مبكراً ويحسن توجيه دفة سفينته.

مع كل ذلك الذي مضى، وهذا الذي يحدث، والآخر الذي لم يأتِ ولم يحن أوانه من أفكار وأحداث.. نرجع لنحن “الآن” إنك على وشك خوض غمار دراسة سنواتها طويلة شاقة متعبة، وسمهّا ما تشاء من صفات على نفس الوزن وعلى نفس الوتر ونفس القافية! لكن الهدف واضح هناك، نعم الطريق لن تكون سهلة أبدا، لكن لن أحيد عن هدفي، ولن أتراجع في طريق الوصول إليه، تبطئني الظروف؟ فليكن.. يرميني المرض؟ أتحمل، يسقطني الضغط؟ أقوم، وأقاوم ضاربا بكل ما سبق من ظروف عرض الحائط. تحد؟ سمه ما شئت، لكن كلما أُبطِئتَ أو رمُيتَ أو أسقطِت تذكر وتمعّن: “ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا”.

هنا وهنا فقط، يسلمك الإنسان نفسه، زوجه، ولده.. واثقا بك طالبا الشفاء من رب العالمين من خلالك!! تخيل للحظة أن تكون أنت من اختاره جل في علاه بقدرته ليشفي هذا الإنسان، يداويه و يعالجه، يصلح ما حلّ به، أنت! أنت من بين مليارات البشر، أداة من أدوات قدرته تعالى في شفاء الناس! مسؤولية تهدّ الجبال، وتشريف إلهيّ عظيم..

دعوة: الله..!! دعوة هي طارت من فمِ حاجة طاعنة في السن أكلت السنون أسنانها، وأضعفت الخطوب عظامها، وارتسمت خطوب الحياة على تجاعيد وجهها، جاءت إلى طوارئ العظام (علم أحبه ويحبني) -حيث كنت طالبا في سنتي الثالثة – تعاني من آلام في الحوض بعد سقوطها في الحمام أثناء وضوئها للصلاة، تبشرها بعد إجراء الفحوصات اللازمة لها، أنها على ما يرام لا كسور لامست عظامها الضعيفة، فقط رضوض طفيفة.. تطير بعدها تلك الدعوة البيضاء بياض الثلج، المعطرة بالصدق والحنان والامتنان، تطير لك في السماء تعلو وتعلو مزينة بزهورٍ وورود “ربي يوفقك” و”ربي يرحم والديك” و “ربي يسهل الأرض تحتك” الله..!!

في تلك اللحظات.. كل ما سهرته، حفظته، تعبته، مرضت من أجله، عانيت في سبيله، كل ألم، دمعة، ضغط نفسي وُضعت تحته، أو شوق أحرق قلبك، وحدة أرّقت قلبك، كل ذلك يختفي في لحظة! تلك الدعوة التي استغرقت ثوانٍ توصلك السحاب، تزيد عزيمتك، تقوّي فيك ما تعمل، تزيد ارتباطك وحبك لهذا الطريق.. لهذه المهنة.

قل للطبيب إذا ما جئت تنصحه كن يا طبيب قبيل الطب إنسانا.

نصف الدواء بثغر منك مبتسم يسقي العليل على الآلام تَحنانا.

أحسن إليه إذا ماكان في عَوزٍَ فالله يجزي غلى الإحسان إحسانا.

“ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا” ما أجلهّا من آية، ما أسماه من هدف، ما أعظمه من جزاء، وما أقدسه من عمل.. إنقاذ حياة!

1xbet casino siteleri bahis siteleri