بين الواقع والخوارزميات

أشار الدكتور مصطفى محمود في أحد أعماله “من أمريكا إلى الشاطئ الآخر” إلى التكنولوجيا قائلا: «في العالم ثورة علمية إلكترونية تتفاقم وتتضاعف بسرعة، وفي سنوات قليلة سوف تجعل هذه الثورة الأغنياء أغنى والأقوياء أقوى والمتقدمين أكثر تقدما.» لا شك أننا الآن بين هذه الأسطر، حيث تفاقمت هذه الثورة الإلكترونية لدرجة أصبحنا عاجزين عن العيش بدونها. أصبحت الراحة والمتعة والملاذ وفي غالب الأحيان مصدر الرزق للكثيرين، جيلا بعد جيل.

بعدما كانت أفواه أجدادنا تفتح بمجرد رؤيتهم لأشكال تتحرك داخل صندوق أو كما أطلقوا عليه حينها «صندوق العجائب» حتى أصبح أصغرنا يحمل هاتفا ذكيا في يديه وفمه معلق في ثدي أمه. وهو شيء يستحق الثناء أننا لا زلنا نرى أمهات مرضعات وسط زوبعة السرعة والتكنولوجيا هذه. ولرُب أحدا من غير عصرنا يسأل: ما العيب إذن وإن لمن صفات البشر التطور والتجدد؟

التطور، والتقدم والتجدد؛ هي أشياء جبل عليها البشر منذ بداية الخليقة ولولاهما لما تفرق أبناء آدم إلى أمم وشعوب تختلف ألسنتهم وثقافاتهم، لكنه ليس بالتقدم الذي يقاس بالنسبة لدولنا النامية؛ إذ إن الفجوة الزمنية بيننا وبين القوى العظمى ترمي بنا لآلاف السنين من التخلف التكنولوجي ولا زالت تضعنا في رف الاستهلاك، وأي استهلاك هذا الذي حولنا إلى عقول تعيش تحت رحمة الخوارزميات، وبهذا لا أنفي ذلك الجزء البسيط من الناس الذين رودوها لصالحهم لأن القواعد لها استثناءاتها.

مقالات مرتبطة

عيبنا في زمننا هذا أننا نستخدمها فيما لا يصلح لتطورنا إلى ما هو أفضل، والجير بالذكر أن أغلبنا أصبح يعيش الحياتين، أولى تزوده بحاجياته البيولوجية وأخرى بكل نواقصه، فبكبسة زر يستطيع إخفاء غبائه والتظاهر بالثقافة والمعرفة والشمولية بمجرد نسخه لبعض المعلومات ولصقها. وأخطر آثار هذا التطور أن حياة الإنسان أصبحت بعيدة عن الواقع قريبة جدا من الوهم، فأغلبنا يعيش السعادة والرخاء والفرح وكل مواصفات المدينة الفاضلة داخل تطبيق وضحكات مسجونة في صور ينتظر صاحبها آلاف اللايكات وإلا فقد الأمل في حياته.

كل شيء أصبح تحت معايير مضبوطة من الأكل والشرب إلى المسكن والملبس وأساليب العيش، أهدافنا وأولوياتنا تتغير بتغير الترند، ونحظى بروح اجتماعية داخل موقع يجمع ملايين الشخصيات الافتراضية، بينما نحن في الواقع كل شخص يعيش بمعزل عن الآخر. أي تطور هذا الذي جعلنا كالآلات الإنتاجية المسلوبة من أسمى صفات البشرية وهي الإنسانية.

بتنا نبتعد كثيرا عن الطبيعة البشرية ونقترب كثيرا من كوننا أجساد وعقول مسيرة باللايكات والهاشتاكغات، العولمة والتكنولوجيا هي أساسيات العصر والمجتمعات المتحضرة، لكن من الأفضل أن نقفز من رف الاستهلاك. وأختم بما ختم به الدكتور محمود كتابه الذي سبق ذكره: «إخوتي، لقد جاء الوقت لنستفيق، فعجلة الأحداث تجري بسرعة وعما قريب ندخل في منعطف التاريخ ونحتبس في عنق الزجاجة إن لم نحتسب لكل يوم حسابه.»

1xbet casino siteleri bahis siteleri