نعمة توسع أم غمة انحسار

انطلقت إشاعات عن خطورة وغرابة الجيل z وتهديد مصير البشرية كالنار في الهشيم في منتصف التسعينات من القرن الماضي. غلف الذعر قلوب الناس ليتساءلوا عن مصيرهم المجهول المدفون تحت رحمة جيل لم ير النور بعد وبأي غرابة هم موعدون، لا أحد يعلم من أين أو كيف انتشرت هذه الإشاعات.

لكن بعد مرور الزمن، بدأت ملامح هذا اللغز تظهر بعدما اجتاحت الإنترنت العالم وبدأ مواليد الألفية الثالثة يفتحون أعينهم وأفواههم على غرابة لم يسبق لآبائهم وأجدادهم أن آلفوها. ولأن كل شيء في هذا الكون محكوم بالتطور، اقترن تطور التكنولوجيا بنضوج أطفال الجيل z، ولم تكتفِ الإنترنت بتوفير محركات البحث والتواصل المحدود فقط بل إنها تعدته لتكون عالما خاصا يختلف عن عالمنا الحقيقي، بل وقد يكون أفضل منه.

كل شيء تقلص وكأنه حشر في مكعب صغير الهيئة ولكنه كثقب أسود يلتهم كل معلومة في طريقه ليرتبها بعد ذلك بشكل نموذجي مثالي، وييسر عليك مشقة الحياة، ويرفع عنك أثقال الواقع المتهالك أو بمعنى آخر يوفر لك حق الاختيار الذي لم يسبق لك أن حظيت به. و لا يمكن أن ينكر أحد على وجه البسيطة فضل هذه التكنولوجيا في تسريع عملية التطور البشرية والذهاب بها إلى نقط أبعد بكثير مما كانت عليه وعلى جميع المستويات.

مقالات مرتبطة

لكن في لحظة تخمين بسيطة نكتشف أن تلك الإشاعات المنتشره سابقا عن خطورة الجيل الجديد هي تهمة تحريض ليس إلا. لأنه كما يعرف أنه جيل نشأ ونمى في عصر التكنولوجيا الرقمية حيث أصبحت جزءا أساسيا من حياتهم اليومية على عكس الأجيال السابقة، مما يجعلهم أكثر مهارة في استخدامها والتعامل بها ومعها، الآن لا يمكن أن يعيش شخص في موقع ما في الكرة الأرضية بمعزل دون أن يتأثر علميا وفكريا دينيا اقتصاديا وسياسيا وحتى ثقافيا بالعالم الخارجي. هذا الجيل لا يعرف شيء عن الانحسار داخل مجتمع مغلق يؤمن فقط بأفكاره ومعتقداته. بل له حرية الاختيار، حرية الانضمام أو التخلي، حرية التصديق أو الإنكار.

لكن نظرا لمبدأ التوازن الذي يحكم الكون، فإن لهذا التطور التكنولوجي تكاليف كما أن له فوائد، أغلب هذه التكاليف يقوم بتأديتها أبناء الألفية الثالثة نفسهم إذ إن وسط نعمة هذا التوسع هنالك غمة انحسار. بعد اكتساح التكنولوجيا الرقمية كل زوايا الحياة الشخصية والعملية للبشرية تمت ملاحظة آثارها الجانبية على مستخدميها خاصة في صفوف الشباب، حيث إن المشاكل الصحية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي يعانون منها أكبر وأعمق بكثير مما كانت عليها الأجيال السابقة قبل بزوغ فجر التكنولوجيا، مما يجعلهم في مأزق كبير يحيلهم إلى فرض توازنات قد تكلفهم التخلي عن توسعهم هذا والرجوع لنقطة الصفر.
فكت البشرية لغز الغرابة وما وعدوا به قبل احتفالهم بحلول العام الأول من الألفية الثالثة، لكن جيل z لا زال وبعد مرور ثلاثة وعشرين سنة يحمل وصمة عار اسمهم وإشاعات هلاك الكون على يد تطور ليسوا بمبتكريه، وبتكنولوجيا ذنبهم الوحيد هو تطبيق ما كتب في دفتر استعلاماتها والتعايش معها.