يوم في حياة مكتئب

في البداية أود أن أشير إلى أن العنوان ليس مرتجلا بقدر ما هو نتاج تأثري البالغ والكبير بالعمل الذي وسمه الروائي السوفياتي المرموق ألكسندر سولجينتسين بـ “يوم في حياة إيفان” والذي حصد به جائزة نوبل للآداب، وتحكي الرواية عن تفاصيل يوم كامل لسجين يدعى إيفان شوكوف كسجين في معسكر الاعتقال السوفيتي لإعادة التأهيل الشهير عالميًا باسم «الغولاق».

هذا الاستلهام ليس اعتباطيا طبعا فهناك قاسم مشترك بين المكتئب والمعتقل، الأول كبلته فكرة أو مجموعة أفكار حالت دون تذوقه لمعنى الحياة، بينما الثاني كبلته الأسوار والحيطان. الإثنين يشتركان في الألم ذاته وإن اختلفت الحدة! إليكم ما يكابده الأول، ولكم فسحة التفكير والمقارنة.

يمسي على تعب، وصباحه ليس أفضل حال من مسائه. في صباح كل يوم يفتح رموش عينيه على وقع الصفعات، نعم صفعات الذكريات الماضية التعيسة، تلك التي تجعله في دوامة لا متناهية من الألم، لا يقوى معها على الحراك، تخاله قد شل من فرط التفكير وإن كان في واقع الأمر كذلك، فقد اختطفت ذاكرته، وأعيت آهات الشرود روحه، وفي فراشه لا يجد مذاقا لما حوله ولا متعة لما يراه، فهو في الأصل لا يزور واقعنا إلا لماما، كومة خيال عالقة في براثن السوداوية التي حولت حياته لضنك، لا يكاد يقتلع رأسه عن الوسادة إلا لالتزام عملي أو أسري وبدورهما لا يجد لآداءهما معنا يذكر، مجرد عادة جُبل عليها من فرط المداومة، غاية سعادته هو بالذات ما تطلق عليه في محادثتك مع زملائك ب” مر يومي عاديا” فعادتك أنت في أسوء الأحوال يوم ممل، لكن بالنسبة له فالعادة يوم مؤلم، معتاد الآخرين غاية لديه، وسعادتك أنت لا تغدو أن تكون إلا حلما سرياليا لديه، يصعب عليه تمثله فضلا عن عيشه. 

حياة تقتات على فتات الألم، وتستقبل التعاسة استقبال الولاة وتجد لها ألف مبرر للمقام في فؤاده، ولا تجد ما يملك الفؤاد إلا الأعذار والتخوفات المقرونة بالحذر، جدار شيد بإحكام بينه وبين حياة الناس التي لا يحياها إلا على وقع صدمة تفوق صدمة ما يحياه، وفاة قريب أو ما شابه.. والعودة حتى إن تحققت فلا تستغرق إلا بضعة دقائق، فأغلال التيه والضياع متينة لا انفكاك لها إلا بإرادة صلبة تصارع قمم الجبال، وهو بالذات ما يفتقر إليه في الوقت الراهن.

مقالات مرتبطة

أما عن الطعام فإقباله عليه يكون بنهم ولهفة، لا تسألني عن حلاوته، فالتلذذ لا يكون غاية الأكل، لا يجد له مذاقا ولا حلاوة، وما هي إلا استجابة فطرية لمحاولة التحرجر والعيش وملاذا لتناسي قسوة داخلية بلغت به مبلغا، لن تفوتني الفرصة لأحدثكم عن تركيز مفقود لا يتجاوز حيز الدقيقة في أفضل الأحوال.

وكيف لتركيز أن ينمو تحت القصف والهجوم الكاسح للقتامة والسواد، لطالما تساءلت وما الداعي لكل ذاك؟ هل للأمر علاقة بماض جريح تأبى نوائبه الإنصراف عن ذاكرة المسكين؟ أم ربما نظرة قاتمة لحاضر مرير جعله لا يستشرف مستقبلا؟ الراجح أن كلا الاحتمالين وارد، فالزمن مرتبط ومرارة موقف مربك بالأمس قد يؤثر على ملامح الحياة بالحاضر والمستقبل معا، وماذا إن كان الإقبال على خالقه بلسما وضمادا لكل الجراح. أو لم يقل عز من قائل في كتابه الكريم {وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ ٱلظَّٰلِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}صدق الله العظيم. 

لا أشك في إيمان صديقنا فهو رغم مصابه لا ينفك يداوم على صلاته بل وقراءة القرآن أيضا. هنا تحديدا فتحت أفقا للبحث عن علاقة الإيمان بالإكتئاب، والجدير بالذكر أن فضولي أوصلني إلى أن للإيمان دور في تخفيف الأزمة، وقد لا يكون ضامنا للشفاء الكامل. كما أن الإكتئاب حسب ما اطلعت عليه من بعض من تضلع في الجمع بين الدعوة والاختصاص، قولهم أن الإكتئاب مرض موضوعي كسائر الأمراض ولا غنى عن استشارة طبيب في المجال. ومما اطلعت عليه من جهابذة من مر بالوضع ذاته أو مشابه له، صاحب الإحياء وحجة الإسلام أبو حامد الغزالي رحمة الله عليه، وبعد الإطلاع على سيرته أعجب لمن يسقط مدلول آية “وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ” على حالة من ألمت به موجات اكتئاب حادة، لأنه جهل مطبق بواقع السقم وصاحبه.

لن أزيد عن مقاربة الموضوع من الناحية العلمية فهو في غاية التعقيد والتشابك ولا يمكن الحسم فيه بتدوينة، بقدر ما يهمني نقل حالة صديقي المعتقل في سجن فكرة سلبية، جعلته تلك الفكرة بالعزلة قرينا، لا يغادر غرفته إلا لحاجة بيولوجية أو عمل ملزم كما أسلفت الذكر، ولارتباط ألم النفس بالعضو، فآلام لا تغادر جانبه الايسر من الصدر، وتوجسه الدائم يجعله يفسر كل ما يصيبه بمؤامرة محبوكة ضده ويجد لها ألف رابط وإن جافى المعقول والمنطق.. ولأُجمل وألخص فسأقول أنها حياة لن تتمناها حتى لأسوء أعدائك، تلك هي حياة صديقنا المكتئب!

1xbet casino siteleri bahis siteleri