علاقات في مخيلتي!

682

في عالم علوم المخ، تتغير المفاهيم باستمرار، فمقابل كل زعم أو تصريح ستجده عند عالِم ما، ستتمكن في الأغلب من العثور على دراسة جديدة أو بحث يعارضه. ومع ذلك، فإن لِعُلَماء هذا المجال نقطة التقاء؛ أمخاخنا ليست معصومة من الخطأ، فرغم الدّقة المتناهية التي تعمل بها إلا أنها مليئة بالنقائص والثغرات. هذا الأمر ليس عيبا في تكوينها، فالله سبحانه وتعالى خلق الانسان في أحسن تقويم، ولكنها كذلك، لحكمة وغاية أرادها الله عز وجلّ.

إن كان المخ، بشهادة علمائه، قاصرا عن الكمال المثالي فكيف نضمن به صحة قراراتنا والتصرفات المترتبة عنها؟ إن كانت أمخاخنا عرضة للخطأ على الدوام ، فكيف لنا أن نثق بها؟ الإجابة باختصار: ليس لدينا ما نفعله حيال الأمر، وما علينا إلا أن نتجنب الركون للقرارات والصنائع الفكرية التي وصلنا إليها لأنها قد لا تكون بالدقة التي نعتقد أنها عليه.

لدى أهل العلم عبارة جميلة جدا وتُلَخِّصُ كل ما سنتحدث عنه في هذا المقال: “الحُكْمُ على الشيء فَرْعٌ عن تَصَوُّرِه”. كل ما يصدر عنا من أحكام أو تصرفات تجاه شخص أو حدث ما، هو نتاج تصورنا الداخلي له ولا علاقة له بحقيقته إطلاقا. وإن كان لشيء ما دور في تحديد حياتنا وبناء علاقاتنا مع الآخرين فهو تصوراتنا.. تلك التصورات التي تجمعت وترتبت في أذهاننا منذ ولادتنا لتجعلنا ما نحن عليه؛ نقبل ما تقبله ونرفض ما ترفضه.

في علاقاتنا مع الآخرين، كل شيء ينشأ من المخيلة. هي المحرك الرئيس لطريقة تفاعلنا مع الآخر؛ هي مُوَلّْدُ الحب، الكراهية، الشجاعة والخوف…عن هذه المخيلة أيضا ينشأ قلق الارتباط، العزوف عن الزواج، انعدام الثقة وغيرها من الاضطرابات الاجتماعية. فمهما استعرض الإنسان من مهارات في التحليل العقلاني والتفكير المنطقي إلا أنه بوعي منه أو بغير وعي يبني حياته اعتمادا على مخيلته.

هذه المخيلة هي مصنع التصورات، والتصورات تبني التفكير الفردي للشخص وبالتالي تحدد معالم شخصيته.
حسب العلماء النفسيين هناك عاملان أساسيان يتحكمان في بناء تصوراتنا: أولها العالم العولمي الذي نعيش فيه، والثاني هو الإعلام بكل وسائله الحديثة.

أغلب سكان الأرض اليوم وُلِدُوا وترعرعوا في العالم العولمي.. هذا العالم الذي مكننا من الانفتاح على كل الثقافات ومشاركة العادات وغيرها، أدخل إلينا تصورات مختلفة عن حدود العلاقة مع الآخرين، عن الصداقة، عن الزواج، عن علاقة الزوجة بأهل زوجها، عن مبادئ التعامل مع رؤساء العمل والزملاء وغيرها.

أما الإعلام، فقد امتدت وسائله في وقتنا الحالي كأذرع الأخطبوط وسيطرت على كل محطاتنا الحياتية لما لها من دور محوري في تحديد التصورات وبناء المخيلات؛ في طفولتنا، تَشَرَّبْنا بعض التصورات من أفلام الكرتون بحيث رسخنا ثقافة الأبطال الخارقين والأميرات الحسناوات وقوى الساحرات في مخيلاتنا. بعد أن كبرنا قليلا، وفي مراهقتنا تحديدا، أضفنا التصورات المستمدة من الأفلام العالمية والروايات المختلفة بل وحتى من الأخبار اليومية التي نسمعها. ثم مع ازدياد نضجنا أصبحنا نكتسب تصوراتنا الخاصة انطلاقا من التجارب التي نمر بها عبر الاحتكاك بالآخرين من دول أخرى وثقافات أخرى قربتهم إلينا وسائل التواصل الاجتماعي.

لا ننكر أن في كل ما ذكرناه فوائد جوهرية تجعلنا على انفتاح دائم وتعزز ثقافتنا، لكن اتخاذ التصورات الناتجة عن كل ذلك كقواعد راسخة في بناء علاقاتنا رغم ما يعتري أدمغتنا من ثغرات هو أمر يدعو لإعادة النظر.
لقد وضع الله لنا مبادئ وضوابط واضحة بَيِّنَةً للتعايش مع الآخرين وبناء علاقات سليمة قويمة معهم، ولنا في نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه خير قدوة، ولكن ما نراه في تصوراتنا اليوم لا يعتمد في مجمله على ذلك، ويكتفي بما تم تمريره إلينا كيفما اتفق.

قد يرى البعض أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد تصورات، ولسان حالهم يقول: هي مجرد أفكار تصطدم بالواقع، إما أن تجد لها مكانا وإما أن تندثر، فلم إذن نمنحها كل هذا التأثير في علاقاتنا؟
إن لها تأثيرا مباشرا كونها تصنع توقعاتنا، وتوقعاتنا هي وقود قراراتنا بسيطةً كانت أم مصيرية.

كل قراراتنا بلا استثناء تُبنى على التوقعات التي ننتظرها، سواء كان الأمر على المستوى الشخصي والاجتماعي أم على المستوى المهني. التوقعات التي ينتظرها الإنسان من الآخرين –بناء على تصوراته- هي ما يجعله يتخذ القرار بخصوص توجه علاقة ما. وكمثال: شخص وحيد لا أصدقاء له، إذا حللنا عملية اتخاذه لقرار الانعزال، سنجد أنه يتوقع الأذية من الآخرين على الدوام وأن في انعزاله سَلاَمَهُ، وهذا طبعا بناء على تصور متجذر في مخيلته أن الأصدقاء لا يأتي منهم إلا الشر وأنهم يطعنون في موضع الجرح.

أحد خبراء العلاقات والتربية الأسرية يقول : ” أغلب المشاكل التي تحدث بين الزوجين سببها التوقعات”. الزوج/ الزوجة، يمتلك توقعات مختلفة عن شريكه قبل الزواج، بل توقعات عن العلاقة ككل. هذه التوقعات مبنية على تصورات كل واحد منهما، تصورات تكدست على مدار سنوات حياتهما انطلاقا من الأمير الساحر الذي ينقذ الأميرة، إلى معايير الزوجة المثالية التي تتداولها وسائل التواصل الاجتماعي. بعد الزواج، تفرض الحقيقة نفسها فرضا عليهما وتحطم فانوس توقعاتهما لتتركهما يتخبطان في عتمة المشاكل ودهاليز الخلافات. وكنتيجة، يتشكل تصور جديد يُضاف إلى تصوراتهما السابقة؛ الزواج كابوس.

هذا هو تأثير التوقعات الناتجة عن التصورات، المثال الذي ذكرته هو على سبيل العد لا الحصر، فالمشاكل التي نراها بين الجيران والأصدقاء وخلافات العمل… الخ ما هي إلا نتاج اصطدام التوقعات فيما بينها وهيمنة الحقيقة عليها.
لا نستطيع إيقاف بناء تصوراتنا، كما أننا لا نقدر على التحكم فيها، فهي عملية لا واعية تقوم بها أدمغتنا انطلاقا من المدخلات التي أشرنا إليها سابقا بما في ذلك تجاربنا السابقة وتجارب الآخرين التي نسقطها على أنفسنا.

ما يمكن أن نقوم به هو أن نَعِيَ أن تصوراتنا ليست بالضرورة صحيحة وثابتة، إن كانت على شرع الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فهي كذلك، وإن كانت من نتاج ما ذكرناه سابقا فعلينا أن نضعها دائما موضع تساؤل. هناك تحليل طريف لعمل المخ، لعالم الدماغ والأعصاب الدكتور دين برنيت في كتابه “المخ الأبله” عن دوار الحركة الذي يصيب الإنسان عند السفر. حسب تفسيره، يستقبل المخ إشارات مختلطة من نظامي تحديد الحركة والسكون في الجسم. مخنا الواعي يستطيع التعامل مع الإشارات المتضاربة بسهولة، ولكن على مستوى أعمق، الأنظمة اللاواعية لا تعرف سبب الخلل وأقصى ما يمكن أن يستنتجه المخ في هذه الحالة هو إجابة واحدة فقط؛ إنه سُمّ ! لأنه الشيء الوحيد في الطبيعة الذي يمكن أن يسبب هذا الخلل والربكة في أنظمتنا الداخلية، والاستجابة المنطقية الوحيدة للتخلص منه: فَعِّلْ نظام التقيؤ ! إن كان دماغنا يعمل بهذه الطريقة في أمور بسيطة كدوار الحركة، فكيف سيتصرف في مواجهة الكم الهائل من المعلومات التي نتلقاها يوميا مع التجارب التي نعيشها أو نسمع عنها؟

كل هذا يصل بنا إلى اضطراب ما بعد التوقع، عندما يخالف المُتَوَقَّعُ الواقع، تنشأ المشكلة. إما أن يكون التوقع سلبيا فَيُضَيِّعُ الشخص فرصا مهمة صادفته في حياته، أو أن يكون إيجابيا فيجد العكس وتتحطم أحلامه.

هذا هو الفخ الذي توقعنا فيه التصورات التي نتبناها. نحن لا نستطيع التحكم في تدفقها وآلية تكونها، ولكننا على الأقل نستطيع تنقيحها، ولا يتأتى الأمر إلا إذا كنا على قدر كبير من الوعي الذي يسمح لنا بمعرفة التصور السليم من التصور السام، وخير ما نحتكم إليه هو شرع الله الذي سنه لعباده في الأرض.

علينا أن نتعلم كيف نتخلص من المُدْخَلَات التي تغير فطرتنا وتشوش على عمل أدمغتنا على النحو المطلوب، وإن استطعنا، سيكون من الأفضل لو نقطع حبل التوقعات التي نضعها، سلبية كانت أم إيجابية. لا داعي لأن نتوقع شيئا من أحد، لا داعي لأن نتوقع توجه العلاقة في اتجاه ما ونحكم عليها قبل بدايتها.. فبعد كل شيء ما هي إلا توقعات قد تتحقق وقد لا تفعل، وسنعيش ما هو مقدر لنا أن نعيشه.

إذا أردت شيئا اسع له، إنْ مال له قلبك فاتبعه فهو على حق ما دام دائم الاتصال بخالقه، فالقلب المتعلق بالله لن يميل إلا لما فيه خيره، عكس المخ الأبله الذي يعتمد على تصورات / تَمَثُّلَاتٍ وإسقاطات تسيطر على حياتك.

سَلِّمْ أمرك لله وانطلق!

1xbet casino siteleri bahis siteleri