تنوّعَ رفقاء السفر وتوحَّدَ سحر المنظر
مما ميز تجربة هذا السفر إلى التايلاند أنه كان ضمن مجموعة متكونة من عدد من الأشخاص، يبلغ عددهم خمسة عشر فردا، وكان من بينهم صديقان مقربان لي، وهما من أشهر صناع المحتوى في المغرب، لم يسبق لي أن سافرت معهما، أو قضينا معا وقتا طويلا، يسمح بتوطيد علاقاتنا والتعرف العميق على بعضنا البعض؛ فكان هذا السفر مناسبة لتحقيق هذه الغاية. كما أنه كان من بين هؤلاء أيضا صديقان قديمان، أحدهما سبق لي أن سافرتُ معه إلى تونس، وكان ذلك قبل عشرين سنة تقريبا، لما كنت في بداية دراستي الجامعية، وأما الثاني فهو صديق لي منذ سبع وعشرين سنة.
لكنَّ هناك مفارقةً دالّة بين سفري إلى تونس قبل عشرين سنة، وسفري هذا إلى التايلاند؛ ذلك أنني في الأول كنت الأصغر سنا ضمن المجموعة التي سافرت معها، أبلغ من العمر عشرين عاما تقريبا، بينما في هذا السفر كدتُ أكون الأكبر سنا، بحيث لا يكبرني إلا شخص أو شخصان، وهو ما جعلني أستشعر حقا أنني بدأت أتقدم في السن، رغم أن ذلك لم يكن خفيا عليّ قبل ذلك.
وقد زاد من هذا الشعور أن المجموعة التي سافرت معها تضم أشخاصا في نهاية عقدهم الثاني، وآخرين في العشرينات وبداية الثلاثينات من عمرهم، وكانوا يعاملونني باحترام وتوقير كبيرين؛ بحيث أجدهم أحياناً يخوضون في بعض الموضوعات، فإذا استشعروا قدومي عليهم غيّروا موضوع الحديث، وإذا كان أحدهم يدخن ودخلت عليهم خرج من الغرفة أو ابتعد عن المجموعة أو أطفأ سجارته، وأشياء أخرى من هذا القبيل؛ ومعاملتي بهذا الاحترام والنظر إلى بعين الإجلال والتوقير، جعلني أستشعر أنني قد بدأت أكتسب وقار الشيوخ، وهيبة التقدم في السن. هذا، رغم أنني لم أكن أتعامل معهم بمنطق “الأخ الأكبر”، أو الرجل الخبير في الحياة، والذي جرب ما لم يجربوه.
وهذه النقطة تجعلني أنتقل إلى نقطة أخرى، وهي أنه من الأشياء الملحوظة في هذا السفر أنه عرف مزيجا بين أعمار متفاوتة، فبعض المسافرين كان في الأربعينات وآخرون في الثلاثينات وبعضهم في العشرينات، بل بعضهم حديثو عهدٍ بــسن الرشد القانوني.
وبطبيعة الحال، ترتب عن هذا التفاوت في الأعمار تفاوتٌ في الرغبات والخطط. فما من شك أن برامج الأنشطة التي تعجب الناس في العشرينات لن تكون هي نفسها التي تعجب الناس في الأربعينات، فإذا كان الناس في العشرينات يحبون الأشياء التي نصفها أحيانا بـ “الأشياء التي تنبض بالحياة”، ونحن نقصد تلك الأشياء الصاخبة والتجمعات الكبيرة، فالناس في الأربعين يميلون أكثر إلى العزلة والتأمل، والتجارب الفردية التي تجعلهم أكثر انسجاما مع ذواتهم. والحقُّ أن الذي يشعر الناس بالتغيير، وهو من غايات السفر الأساسية، ليس واحدا بالنسبة لكل الناس، ولعل هذه من سلبيات تجارب السفر الجماعية، وإذا انضم إلى ذلك تفاوت في الأعمار، كان ذلك أدعى إلى مزيد من الاختلاف في الرغبات.
ومع كل سبق، فقد نظمنا سفرنا بشكل جيد للغاية، حيث وزعنا أنشطتنا خاصة في مكانين رئيسيين، وهما منطقة بوكيت، وجزيرة فيفي أيلاند.
فقد تركزت معظم أنشطتنا في بوكيت، حيث قضينا أغلب أيامنا، وهي أكبر جزيرة في التايلاند، وهي من حيث مساحتها بحجم سنغافورة. وبالإضافة إلى كونها الأكبر فهي أشهر جزيرة في مملكة التايلاند، جزيرة سياحية، تستقطب العديد من السياح ومن المشاهير، وهي حقا وصدقا جزيرة ساحرة، وشواطؤها رائعة للغاية، ومُثّلت فيها بعض الأفلام السينمائية الشهيرة.
وبوكيت تاريخيا كانت طريقا رئيسية للتجارة العالمية، بل كانت ملتقى للتجار، خاصة بالنسبة للصينيين والهنديين والبرتغاليين، الذين كانوا رواد الملاحة العالمية آنذاك، فكانوا يجتمعون في بوكيت للتبادل التجاري. ويقطن هذه الجزيرة حاليا بعض السكان التايلانديين ذوي الأصول الصينية، يعرفون بالــ”بابايايا”، كانوا قد تزوجوا بالـ “المالاي”، وهم السكان الأصليون للتايلاند، وكان لهم الفضل في ترسيخ بعض الثقافات الصينية في هذه الجزيرة.
ولأجل ذلك نجد في بوكيت بعض الأحياء الراقية، ذات هندسة صينية وبرتغالية، وذلك راجع إلى أن الصينيين والبرتغاليين الذين اغتنوا من التجارة آنذاك استقروا في جزيرة بوكيت، لسحر طبيعتها، وأنشؤوا فيها منازلهم وبيوتهم على الطريقة البرتغالية، التي كانت رائدة في الهندسة المعمارية، مع إضفاء بعض مظاهر الثقافة الصينية على هذه الهندسة.
غير أن بوكيت رغم أنها تسحرك بجمالها، إلا أنها تحيرك بتناقضاتها؛ فمن الأشياء التي لم أستوعبها في بوكيت، ولم أجد لها تفسيرا معقولا، أنها تحتوي على أكبر تماثيل بوذا، وفيها الكثير من المعابد البوذية، ولكنها في نفس الوقت، فيها حي من أكبر أحياء السياحة الجنسية في العالم، وهو حي باتونك، حي كبير خاص ببائعات الهوى، ومنهم المتحولون جنسيا، ولا يقتصر الأمر على عرض الأجساد، بل يتجاوزه إلى اعتراض المارة ومحاولة التأثير عليهم وإثارة شهواتهم الجنسية لدفعهم إلى الدخول في صفقة جنسية عابرة، وقضاء شهوة آنية؛ والظروف مهيأة، فهناك غرف وفنادق تعرض خدماتها لهذا الغرض بشكل وافر. وقد كنا فيما بيننا نسمي هذا الحي بباب جهنم، لا يلجه ولا يقربه إلا الأشقياء.
والمفارقة في الأمر كما ذكرت هو أن هذا الحي نفسه يتضمن أكبر معبد للبوذية، مع ما نعرفه من طغيان الجوانب الروحية على الديانة البوذية، إذ تتمحور بالأساس على الابتعاد عن الشهوات واحتقارها. فكيف اجتمع النقيضان في مكان واحد؟ يظل سؤالا مفتوحا ومفارقة تستعصي عن الاستيعاب.
كان حظ هذه الجزيرة من سفرنا أنْ قضينا فيها ما يقرب من نسبة 70% من المدة التي استغرقها هذا السفر إلى التايلاند، وقد استطعنا أن نغير طريقة عيشنا ونكيفها مع الأنشطة التي يتضمنها برنامجنا؛ فكنا نستيقظ صباحا، وننتقل على الدراجات النارية -إذ لم نكن نستعمل السيارات- فكنا نذهب للتمرن كل يوم في أحسن قاعة رياضية في هذه الجزيرة، قاعة يتدرب فيها أشهر أبطال المواي تاي، منهم خبيب وغيره. وفيها تعرفت على هذه الرياضة وتعلمت شيئا من أبجدياتها وقواعدها.
بعد ذلك، نذهب لتناول وجبة الفطور، وقد لاحظت أن وجبات الفطور هنا صحية جدا، وفيها تنوع غذائي كبير، بحيث تتضمن جميع المكونات الغذائية بما فيها الفواكه. بخلاف ما نجده في المغرب، هناك محدودية كبيرة في الخيارات حين تفكر في وجبة الفطور. فقد تستغرق وقتا طويلا لاتخاذ قرار ما ستأكله، وبعد جهد جهيد في التفكير، تقرر أن تتناول البيض، مع أهميته الغذائية بطبيعة الحال.
بعد ذلك، نذهب لزيارة شواطئ بوكيت، حيث تحتوي هذه الأخيرة على أكثر من ثلاثين شاطئا، وكلها شواطئ في غاية السحر والجمال، بحار آسرة، رمل أبيض ومياه صافية زرقاء، ومناطق جبلية خلابة، ونخل شامخ؛ إنها تجمع بين مظاهر الطبيعة الجبلية، ومظاهر الطبيعة الساحلية. وهو ما يُضفي على المنطقة كلها رونقا ومنظرا خلابا.
كانت هذه إذن هي معظم الأنشطة اليومية التي نقوم بها في بوكيت، وهي كما تلاحظ موزعة بين التمارين الرياضية واكتشاف الشواطئ والمناطق الطبيعية الخلابة.
وأما الجزيرة الثانية التي قضينا فيها جزءا من سفرنا، فهي جزيرة فيفي أيلاند، وهي الجزيرة التي تم فيها تصوير فيلم the beach، بطولة ليوناردو دي كابريو. وكان هذا الفيلم مما زاد في شهرتها، حيث انتقلت بعده إلى وجهة سياحية عالمية.
هذه الجزيرة أكثر جمالا من بوكيت، ولكنها أصغر منها، فــ بوكيت هي إقليم، أما فيفي أيلاند فهي مجرد جزيرة صغيرة، لا تلجها المركبات والسيارات، ويتم الدخول إليها بعد أداء رسم على كل شخص قدره تقريبا ستة دراهم، وهو رسم يُرصد لتكاليف النظافة في الجزيرة، ولذلك لا تجد فيها أي شيء مما يمكن اعتباره مظهرا من مظاهر عدم النظافة.
ويقصدها الناس للاستجمام والراحة، وطلب الصفاء الذهني والنفسي. وقد كان من سوء التقدير أننا قضينا في هذه الجزيرة يومين فقط، وكان نشاطنا الأساس هو الذهاب إلى الشاطئ، بالإضافة إلى أننا كنا نزور الجزر المجاورة، ومنها أجمل جزيرة في التايلاند جزيرة مايا بيغ، إذ ذهبنا إليها عبر القارب، واستغرقت الرحلة إليها تقريبا أربعين دقيقة، وهي جزيرة خيالية بكل ما للكلمة من معنى، ما جعلها وجهةً مفضلة مُثل فيها العديد من الأفلام.
في هذه الجزيرة، كنا نقضي اليوم كله تقريبا في السباحة مع الأسماك، والاستمتاع بمناظر خلابة، وكنا ننتقل بين الجزر المجاورة، وهي شبه شواطئ صغيرة، تتسع لأربعين إلى خمسين شخصا، ويتم حجزها في الغالب من قِبل أشخاص أغنياء، يعتزلون فيها لمدة معينة، قبل الرجوع إلى بلدانهم، طلبا للصفاء والراحة والاستجمام.
وختاما، فهذا حاصل ما دوّنته بخصوص أنشطة هذا السفر، وما ميزه ولفت انتباهي فيه. وكما يمكن أن تلاحظ، فالسفر هو عملة ذات وجهين، فهو تعرّف على المكان الذي تسافر إليه، باكتشاف مناطقه وطبيعته وثقافة الناس فيه وسلوكهم وتفكيرهم، وهو من جهة ثانية تعرّفٌ على الذات واكتشاف مناطق خفية منها، أو أمور وإن كانت ظاهرة إلا أنها غير ملتفَتٍ إليها، إلْفاً واعتياداً. وبهذا فالسفر هو نوع من الخروج عن المألوف، ليس فقط المألوف اليومي الذي يحصل بترك روتين العمل لحين من الزمن، ولكن أيضا هو خروج عن المألوف في النظر إلى الذات وفي النظرة إلى الحياة وإلى العالَم عموما، والذي يأتي عبر الاصطدام برؤى جديدة، لثقافات وأمم أخرى. ولأجله يمكن القول بأنه ففي كل سفر يولَد فيك جزءٌ جديد.