لا تقتل الطفل الذي بداخلك!

خلال أول نفس لنا في هذه الحياة كأطفال سذج، لا يفقهون عنها سوى مرحها وعطاياها القيمة من هدايا وحلويات وإكراميات الأعياد والحفلات، وحضور كل ما لذ وطاب واشتهت نفوسنا، ثم بعدها نكبر لنتحول لمن كنا نلقبهم في نعومة أظافرنا بالكبار، ليتغير معنا معنى الحياة، نفهم أن للحياة مرحها وقرحها، عطاياها وحرمانها، وكأننا نفطم من ثدي الطفولة للانتقال إلى راشد يكتمل وعيه بألاعيب الحياة ومكرها، وبذلك نستوعب أنها لا تقتصر فقط على مد وامتداد يحقق رغباتنا وإنما تتجاوزه أيضا نحو جزر يقزم طموحنا بتجارب حياتية قاسية تعتبر ضريبة العيش وضرورة اكتمال الوعي والاستيعاب، وتكون تمهيدا لتشكل بداية معرفتنا بذواتنا إذ نحن جربنا الحياة خارج قوالب معتقداتنا الشخصية.

الحياة عبارة عن حقائق ندرك عبرها أنها تستمر ولا تتوقف رغم ظروفنا اللاملائمة وسخطنا الدائم من مزاجيتها الطائشة؛ فهي جادة حادة الطباع تارة وطيبة لينة المنال تارة أخرى، كل هذا دون تقديمها لأدنى اعتذار عن كونها أنانية وفجائية كالموت، تهزنا هزة عنيفة نستيقظ من خلالها على مرور الزمن مرور السحاب، على تخرج الطالب وزواج الشاب وعمل العاطل.

بفضل خوض التجارب والتحديات الصعبة التي تتطلب ظهرا صلبا من حديد على كائن لا نعرفه فقد براءة وطهارة طفولة الأمس، نراقب المرآة كل يوم قبل خروجنا لنسأل أنفسنا هل كان لا بد من قتل ذلك الطفل السعيد المجنون، ليبعث هذا العاقل التعيس الممل؟ فغالبا ما يعتبر الناس مرورهم بقسوة التجارب الحياتية مبررا لنقلة نوعية في حياتهم، يتحولون بسببها من طيبين لُطفاء إلى أناس تطغى على قلوبهم القسوة والأنانية والخداع على نفوسهم وقلوبهم، مدعين أن صفات القسوة والحدة هي ما يحتاجه العصر وما تتطلبه التحديات، لكن الحقيقة التي تفرض واقعها هي أن الحياة لم تصفُ يوما من كدر لا للطيبين للطفهم ولا للخبيثين لبطشهم، وإنما كانت الحياة لمن فهموا أن سرها هو عيشها على سجيتها، باستقرارها وتقلباتها، بل إن التجربة الحياتية وإن كانت وعرة أحيانا لا نستطيع عليها صبرا فإن سر حلاوتها يكمن في المشقة لمن اعتاد تقبل الوردة بجمال ظاهرها وأشواك باطنها.

مقالات مرتبطة

لعل ما يساعدنا على التحمل هو استحضارنا للطفل الذي يسكننا وعدم الخضوع لقوانين الكبار، تماما، كما كنا أطفالا صغارا بقلوب ملائكة، نعبر عن حبنا لمن نحبهم باقترابنا منهم ومشاكستنا لهم بغية إثارة انتباههم للعب معنا، نخبر آباءنا بمقتنا لمن لا يتفهم رغبتنا في التساؤل، لا ننافق أحدا ولا نغتاب أحدا، عكس العاقل صاحب الظل التعيس الذي نراه في مرآتنا، لا يظهر محبته إلا في المناسبات على شكل تبريكات، يضطر التبسم في وجه المدير حتى وإن كان لا يطيقه ليدخل في نفاق مجتمعي سخيف، يصرخ ليوقظ طفلا ميتا يحيا فيه، فلا يقدر إلا على التأسف لعدم الاستجابة وتعزيته بمقولة الجبران: “ليتني طفل لا يكبر أبدا، فلا أنافق ولا أراهن ولا أكره أحدا”.

إن دفعتك الحياة إلى منعطف لا تريده تذكر أن غالب نقاط التحول المهمة يساق إليها الإنسان كرها لا محبة، واضطرارا لا اختيارا، بعد وعي الإنسان بهذا المبدأ فما على التجربة القاسية إلا أن تعزز إنسانيتك الفطرية فيك، وأن تجعل منك أيها الإنسان كائنا حيا لا ينسى أنه خلق من طين لحكمة إلاهية اقتضت وجوب اللين والمودة في القول والفعل كخليفته في الأرض، فإن كانت هناك طريقة للنجاة من بؤس الدنيا وقسوتها فهي الفهم بأن النار وحدها من تصقل الحديد، ولولا ارتفاع وهم الباطل لما سمع صوت الحق، وأن المعاناة لا تهدم الإيمان بل تقويه وهكذا هي الأشياء تعرف بأضدادها.

فهنيئا لمن كان نصيبه في هذه الحياة نصيب طير خفيف لا يثقل، مستقر الحال مطمئن البال وسليم الفؤاد، لا تفارق الابتسامة محياه في السراء والضراء كطفل لا يعرف الحقد لقلبه سبيلا، فإن أردت إقبال الحياة عليك كإقبال الأم على ابنها العائد من الحرب لا تقتل الطفل الذي بداخلك، حرره من كل قيود الجدية والصرامة التي يعرفها الكبار، اشتر له أقلاما ملونة وكتابا للتلوين، أيقظ ذلك الطفل بجرعات من الأمل لتسترجع إنسانيتك التي ودعتها مع آخر قطعة حلوى اقتسمتها مع صديقك الجائع في المدرسة، اذهب إلى حديقة الألعاب، وانظر كيف يلعب الأطفال دون قيود أو عتاب، راجع نفسك مرة واحدة واسأل نفسك ولا تستعجل الجواب، هل مات الطفل السعيد بداخلك أم أنك أنت من قتله؟