ما يكفي في زيارة بوكيت وفيفي!
في بداية زيارتي لأي بلد، أحب دائما أن آخذ الوقت الكافي قبل إصدار الأحكام أو اتخاذ أي مواقف أو خلق انطباعات معينة عن البلد الذي أزوره، خاصة حين لا تكون لدي أية دراية سابقة به، كما هو الشأن بالنسبة لهذه التجربة. فقد تفاديت أن أبني أحكاما مسبقةً عن التايلاند، انطلاقا من الانطباعات الأولى للأيام الأولى. لكن كلما مرت الأيام هنا بدأت أكتشف هذا البلد شيئا فشيئا، بسبب التجارب اليومية وحديثي ومناقشاتي مع الناس، ومشاركتهم بعض اللحظات، وتلقي المعلومات عنهم.
وأول ما لفت انتباهي هنا هو الوضع السياسي، وبالأخص النظام السياسي للبلد، فالتايلاند هي ملكية دستورية، مثل نظامنا السياسي أيضا، ولذلك يسهل علينا نحن المغاربة أن نتفهم بعض المعاملات التي تميل إلى التقديس، والذي يتعامل به التايلانديون مع ملكهم، لأن هناك تشابها بيننا وبينهم في هذه النقطة. وإن كان الأمر عندهم مبالغا فيه بشكل كبير جدا، خلاف الأمر عندنا الذي لا يصل فيه توقير الملك واحترام شخصه إلى درجة التقديس.
ولعل من مظاهر هذا التقديس عندهم أنهم قد حددوا يوم عيد الأب السنوي في يوم عيد ميلاد الملك، كما أن عيد الأم هو عيد ميلاد الملكة. هذا التقديس يتجلى أيضا في أن القانون عندهم يعاقب على التنقيص من شخص الملك بالسب أو أي إشارة يمكن أن يُفهم منها التحقير والتنقيص من شخصه بعقوبة تصل إلى خمس عشرة سنة سجنا. وجدير بالذكر أن ملك التايلاند هو أغلى ملوك العالم، إذ تصل ثروته إلى ثلاثة وأربعين مليار دولار. وهو ما يعني ضعف ثروة ملك السعودية، باعتباره أغلى ملوك العرب.
أما من حيث الديانة الرسمية للبلاد فهي البوذية، والتي يعتنقها أغلب السكان، بنسبة تصل إلى 95%. ويعتبر الملك هو الراعي الرسمي لها. والمذهب الذي يعتنقه التايلانديون في البوذية هو بوذية تراباذا، أو تعاليم الكبار كما تسمى في الأدبيات الدينية البوذية، وهناك مذهبان آخران في البوذية هما بوذية مهايانا، أو المركبة الضخمة، وبوذية فجرايانا.
وعلى كل، فملك البلاد يرعى أساسا بوذية تراباذا المذهب الرسمي للتايلانديين، وليست البوذية بجميع مذاهبها. ومملكة التايلاند هي الدولة الأولى من حيث نسبة السكان الذين يعتنقون البوذية. ولذلك تعتبر مدينة بونكوك عاصمةً لمعابد البوذية في العالم.
وقد كان بوُدي أن أبحث في المكونات الثقافية للبلد، وجذورها التاريخية والفلسفية والدينية، ومدى تأثير البوذية فيها، لكن اكتشاف ذلك كله كان صعبا علي، قياسا على الوقت القصير الذي قضيته هنا. لاسيما ونحن نتحدث عن دولة ذات كثافة سكانية عالية، إذ يصل عدد سكانها إلى سبعين مليون نسمة، لتأتي بذلك في المرتبة العشرين ضمن دول العالم، من حيث الكثافة السكانية.
من الأشياء أيضا التي لن تخطئها عيناك وأنت تزور التايلاند الألعاب القتالية التايلاندية، وخاصة لعبة المواي تاي. فجزء من السياسة السياحة في هذا البلد يقوم على هذه الألعاب، وقد كان سفرنا بدوره ذا طابع رياضي؛ وذلك أن المكلف بتنظيم الرحلة هو أحد مدربي المواي تاي في دبي، وهو يأتي إلى هنا بشكل متكرر. فهذه الدولة تعرف بهذه الرياضة، رياضة المواي تاي، وهي رياضة تاريخية تضرب في عمق التاريخ التايلاندي، وكانت تستعمل في الحروب كأساليب في القتال الحربي. كما تُعرف هذه الدولة أيضا بالملاكمة التايلاندية، أو كما تسمى “فن الأطراف الثمانية”، حيث تستعمل فيها اليدين والمرفقين والرجلين والركبتين، وهي رياضة رسمية في التايدلاند، وتبث مباراياتها على الإذاعات والقنوات الرسمية، وهي قوة ناعمة تعتمدها الدولة للترويج والدعاية السياحية للبلاد، حيث تجلب عددا كبيرا من السياح، خاصة ممن يرغبون في تعلم المواي تاي، أو القتال أو اللعب مع معلمي هذه اللعبة هنا، كما أنه تقام معسكرات خاصة لتعلم والتدرب على المواي تاي هنا.
وقد كان من محاسن هذا السفر أننا كنا نذهب إلى صالة التايجر، وهي من أفضل صالات تعلم المواي تاي هنا، والتي كنا نلتقي فيها بعدد كبير من الناس، منهم أحسن المدربين، ومشاهير متخصصين وأبطال في هذه اللعبة من دول عدة، كالشيشان وداغستان، وهما دولتان متصارعتان، وهناك حساسيات في نزالات ملاكميهما.
ومن الأشياء أيضا التي لن تخفى على أي زائر لهذا البلد السياحي، هي ظاهرة التحول الجنسي، حيث يحظى المتحولون جنسيا بحماية الدولة، وفي سبيل تبرير هذا الفعل، يَستندون إلى أفكار ومقالات عقدية في البوذية، حيث يعتبرون أن ذلك نوعا من العقاب لهؤلاء عن أفعال قاموا بها في حياتهم السابقة، ولذلك ينبغي أن يُــتركوا ليعيشوا كما يقررون. وهم يتحملون مسؤولياتهم وحدهم، وقوانين الطبيعة ستعاقبهم إنْ هم ارتكبوا شيئا يخالف ما تقتضيها. ولأجل ذلك فهم محميون ويعيشون بطريقة طبيعية. وجدير بالإشارة إلى أن من تعاليم البوذية وحدة الأرواح، فلا فرق بين الأجناس والحيوانات، ولذلك مسألة الجسد لا تكتسي أهمية تذكر، فالأرواح واحدة.
وكما أن الألعاب الرياضية التايلاندية وسيلة للترويج السياحي، فإن المتحولين الجنسيين هم أيضا يُستعملون كأداة لجلب السياح الأجانب، الذين يسافرون من أجل السياحة الجنسية، ويرغبون في ممارسة الجنس مع هؤلاء. حيث إن هناك مناطق في التايلاند معروفة بنشاط جنسي سياحي كبير، والذي يجلب الكثير من السياح، وبالتالي يُـسهم في حركية اقتصادية مهولة. وبمعنى آخر، فالدولة تستثمر في هؤلاء، سواء أكانوا مواطنين أصليين أو مقيمين، طالما أن ذلك يعود عليها اقتصاديا وماليا بنفع كبير.
واعتبارا لكون سفرنا إلى هنا هو ذو طابع رياضي، فقد كانت الكثير من الأنشطة التي قمنا بها رياضية. وقد تعلمت شيئا من قواعد المواي تاي، وانخرطت فيه، ولعبت عدة مبارايات، ما أعادني إلى حنين ذكريات الطفولة، حيث كنت ألعب التكواندو، غير أن المواي تاي لعبة متكاملة، تستعمل فيها جسدك كاملا، ويجب أن تتوفر على بنية جسمية قوية، بخلاف التكواندو التي يمكن لعبها رغم أنك ذو بنية نحيفة. فالمواي تاي يفرض عليك أن تكون ذا بنية جسمية قوية، ومنضبطا، وتستعمل جسدك كاملا، ولذلك تجد أبطال المواي تاي كلهم من أصحاب النبيات القوية الكاملة.
وختاما، فهذه جملة أمور لا تحتاج إلى قوة الملاحظة لتقف عليها في زيارتك للتايلاند، لأنها بارزة بشكل كبير، لكنها تظل فيضا من غيض، وقليلا من كثير. وهذه الأشياء كلها قد ولّدتْ عندي رغبة قوية في السفر والتنقل في هذه المنطقة من العالم كاملة، أعني في الدول المجاورة، فالتايلاند لها حدود مع نيمار وكامبوديا والفيتنام وماليزيا وأندونيسيا، وكل بلد من هذه البلدان له خصائص في الثقافة والطبيعة وأمور اجتماعية كثيرة مختلفة، ولذلك يغدو طبيعيا أن تفكر في زيارة هذه البلدان كلها، لفهم الثقافة الأسيوية بشكل أكبر، وكيف تؤثر وتتأثر ويأخذ بعضها من بعض. وفي نفس الوقت تبقى كل ثقافة مستقلة بذاتها عن الأخرى. وتلك حكمة الله في خلق الشعوب والأجناس مختلفين ليتعارفوا.