القدر أو الاختيار

1٬353
إذا كان القدر يتحكم فيما نعيشه فما موقع الاختيار في معادلة الحياة؟ وإذا كان الاختيار هو المتحكم الرئيسي في النتائج التي نعيشها فما المعنى من كون الإيمان بالقدر إحدى الدعامات الأساسية للإيمان الصحيح في الإسلام؟ أم أن القدر يتحكم فقط في الشؤون التي ليس للمرء سيطرة عليها كالموت والحياة والمرض…وأننا نعيش على وقع اختياراتنا.
بدأت التساؤلات تنمي دائرة الحيرة لدي وتقذفني إلى غيابة نفسي…إلى ذلك الركن المظلم الذي يختبئ فيه إيماني المتكوم الهزيل، والذي لطالما اعتمد على ما ورثته وما تلقيته عن الإسلام كدين يتلخص في مجموع العبادات، بعيدا عن علاقته بحياة المسلم الدنيوية. الشيء الذي كان ينقصني فعلا هو تلك الحلقة المنطقية التي تربط الدين بالحياة الدنيوية بشكل واقعي وجلي، فجعلت من حياتي نقطة البداية وأخذت أتفكر في مساراتي ومنعرجاتي، فهل كانت هذه الأخيرة دائما نتيجة لاختاراتي؟ أجبت نفسي بالنفي…عندما أتوفق في الحصول على ما أريد، أرجح كفة العمل والاختيار الدقيق الصائب ولا أنسى طبعا توفيق الله وإن كان شيئا اعتدت على قوله فحسب وليس لإيماني القوي بالقدر…وإن حدث العكس أجلد نفسي بالبحث عن أسباب الفشل.
لم أعترف يوما بالأعذار…ظننت لفترة طويلة أنني المسؤولة الوحيدة عما يحدث في حياتي وأصبحت أحمل ذاتي مسؤولية كل ما يقع، حزنت وتألمت على الخسارات سواء كانت فرصا، أو زمنا، أو علاقات، أو جهودا، أو مشاعر، أو أملا أو هدفا…لا أستطيع بعد الآن أن أكمل حياتي بنفس وتيرة وطريقة التفكير لأن الأمر مرهق للغاية ويفوق قدراتي العقلية والنفسية كإنسان.
بعد جلسة مع الذات، وجدت أن معظم الأحداث لم تكن نتيجة لاختياري بل لم تخطر على بالي نهائيا…عجزت عن تحليل ذلك الترابط المعقد بينها، فكثيرا ما تأثرت حياتي بسبب نتيجة طبية، أو مكالمة هاتفية، أو لقاء ليس في الحسبان مع شخص ما…من غير الممكن أن تكون الحياة عبثية لهذه الدرجة وكل الأحداث غير المتوقعة وليدة الصدفة.
في هذه المحطة من الرحلة، وجهت تركيزي على القدر لكنني لم أستطع إبعاد الاختيار من ساحة التحليل؛ لأنني في هذه الحالة سأنفي كلا من العقل والعمل وهذا غير منطقي ويتنافى مع ما جاء في الدين. قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105] خلصت في نهاية الأمر، إلى أن الإنسان بعلمه النسبي لهذا الكون المليء بالغموض والأسرار، لا يسعه إلا العمل بالأسباب، أما النتائج، فهي حبكة وتداخل معقد لا يعلم سره إلا الله…هو الذي يملك مفاتيح الغيب والعلم المطلق.
أخيرا، رأيت أنوار نهاية النفق وتعززت ثقتي بالله؛ تلك الثقة التي لطالما انجرفت مع تقلبات الحياة، زادت اليوم إيماني صلابة. ولعل أكثر القراءات التي زكت خلاصتي حول الموضوع هي هذه الفقرة من كتاب الإسلام بين الشرق والغرب: “للطبيعة حتمية تحكمها، وللإنسان قدره. والتسليم بهذا القدر هو الفكرة النهائية العليا للإسلام. فهل القدر موجود؟ وأي شكل يتخذ؟ دعنا ننظر في حياتنا لنرى ماذا تبقى من خططنا العزيزة على أنفسنا وما بقي من أحلام شبابنا؟ ألم نأتِ إلى هذا العالم بلا حول لنا ولا قوة في ذلك، ثم واجهنا تركيبتنا الشخصية، ومُنحنا قدراً من الذكاء قل أو كثر، وملامح جذابة أو مُنفّرة، وتركيبة بدنية رياضية أو قزمية، ونشأنا في قصر ملك أو كوخ شحاذ، في أوقات عصيبة أو زمن سلام، تحت سلطان طاغية جبار أو أمير نبيل، وفي ظروف جغرافية وتاريخية لم يتم استشارتنا بشأنها؟ كم هي محدودة تلك التي نسميها إرادتنا؟ وكم هو هائل وغير محدود قدرنا؟.”