من كل زاوية: الجزء الثاني

بادر للإحسان بكلمة، قبل أن تفتح محفظتك وتخرج النقود. صدقني وإن قمت بصرف كل مالك بالصدقة أو بصرفها على أطفالك وظنا منك أنك بصرفك النقود تكون بذلك قمت بتلبية احتياجاتهم، أبداً يا رجل، أبداً يا امرأة.

في الشق الثاني من سلسلة “من كل زاوية!” نظرت في أمر بالغ الأهمية يحتاج للكثير من الاهتمام وهو إعادة ضبط بعض المفاهيم وآثارها على سلوكياتنا اليوم، ورأيت أنه لا بد لي أن أقف عند إحدى هذه السلوكيات التي حان الوقت لإماطة اللثام عنها.

في الأمس البعيد لم نكن نستطيع تجاوز الكلام عنها في وقت لم أشهده، هذا ما روي لي من زماني هذا، أما اليوم لا مجال لفتح محادثات عن مواضيع كهذه، فنحن نرضخ للسلوكيات التي أضحت بالنسبة لنا عادية، وأن ما كنا عليه هو ليس بالعادي والصحيح. فإن افترضنا جدلا بأن من يرمي الأزبال في الشارع على أنه أمر عادي، يمكننا الإقرار أيضا أن من يصرخ في وجه أمه وأبيه أمر عادي؟ سيكون الجواب لا، ليس رمي الأزبال كالصراخ على الوالدين، هذا التساهل الذي يشوش على مفاهيم كثيرة أثرت على سلوكياتنا وأفعالنا هو تماماً ما أقصد، التساهل في التعامل مع سلوكيات كهذه هو ما جعلنا نحرف ما نريد ونفسر تصرفاتنا على هوانا.

لذا، عزمت مرة أخرى التحدث عن إعادة الضبط والتأطير لسلوكياتنا اليوم،-هذا لا ينفي أنني لا أخطئ، أو أنني أضبط سلوكي أو أنني مثالية، شتان بيني وبينها فأنا مثلي مثلكم أسعى كل يوم للعمل على تحسين نفسي ومحاسبتها على كل صغيرة وكبيرة إذا استدعى الأمر ذلك-. لكن، عندما يقول شخص ما إن رمي الأزبال ليس بشيء سيء بدرجة الصراخ على الوالدين وأنه ليس بالشيء المهم وهو يعلم جيدا أنه يلزمه تفريغ قماماته في المكان المخصص لها، لكنه يستهتر بهذه الأمور ويتساهل، اليوم لا بأس والغد لا بأس والأسبوع المقبل لا بأس وهكذا تأخذه الأيام، فيسعني أن أقول بنفس المنطق أن اليوم لا بأس إن صرخت في وجه أمي وغداً لا بأس والأسبوع المقبل لا مشكلة فقد كنت غاضبا وأفرغت غضبي في وجه أبي، هذا إن اكتفيت بالصراخ فقط ولم تتجرأ يداك عليهما، احذر!

واليوم نعيش على قصص الكثيرين سواء ما يروى لنا من قبل أجدادنا أو والدينا أو ما تقدمه القنوات التلفزية والإنترنت الذي يمكننا من معرفة أين تقع ملابسك وما ستأكله اليوم ومشكلتك مع عائلة الزوج… واللائحة طويلة. حتى صار كل يفهم ويشرح ويتخذ من رأيه مبدأ حياة ليؤثر به على الآخرين، والعقيدة والمنطق لا وجود لهما.

مقالات مرتبطة

لو أخد أمر رمي الأزبال بجد وحزم على أنه أمر لا تساهل فيه وكونه أمر خطير وما له من جوانب عميقة ليست أناشيد تغنى في المدارس ولا يتم العمل بها، لما كانت دار المسنين موجودة قط. وهذا نابع من عدم الأخذ بعين الاعتبار هاته الأمور التي نعدها صغيرة وما ينتج عنها كبير عندما يتعلق الأمر بالوالدين مثلا.

لا يسعني أن أنسى الموقف الذي شهدته منذ ثلاث سنوات خلت، أذكر أنني كنت مع عائلتي على مقربة من الساحل فإذا بي أرى شخصا مع زوجته وأولاده في السيارة (آخر موديل) يتخلص من أزباله برميها عبر النافذة وهو في كامل هدوئه وسعادته، فإذا برجل يمر بقربه ويعمد إلى نصحه ويعاتبه على فعله القبيح هذا. فرد الآخر قائلا:” أنت غادي تنصحني أنا، معرفتيش راسك معامن كتهدر، راني ندمك أنا قاضي…” وما الفرق بين القاضي والطبيب وعامل نظافة والمحامي والبائع المتجول والأستاذ…؟

أما زوجته بدل أن تلطف الجو وتتدخل لتصلح الموقف الصادر عن زوجها، ما كان منها إلا أن زادت الطين بلة بردها قائلة أيضا: “أنا راني طبيبة وعندي اليدين فكل بلاصة.” طبعا هذا سلوك مرضي لا نقاش فيه أسوء من سلوك التساهل والاستهتار والاستخفاف برمي الأزبال.

لكن لو كنا فعلا ندقق في السلوكيات التي تبدو بسيطة وليست مهمة فهي لا تشكل ضررا، ألن نكون بذلك تخلصنا من ورم العظمة والكبر أو العقوق وما إلى ذلك من أورام لحقت بنا، بسبب التغافل والتساهل هذا؟ نسأل الله الصلاح وحسن السلوك وإلا فحتى السلام عليكم هو أيضاً لم يعد إلقاؤه أمراً مهما، لم يعد يلقن ويربى عليه كما في السابق، اللهم أصلح حالنا جميعا وتجاوز عنا وردنا إليك رداً جميلا.

وكل هذا في حد ذاته هو ناقوس خطر لأزمة علاقات نعيشها اليوم، وما أكثرها عند من يعيشون الرفاهية والرخاء والثراء المادي، أما في علاقاتهم مع أهاليهم وأصحابهم وخاصة الأهل فهو منبع نشأت السلوكيات المذمومة كالتي ذكرتها سابقا، ولمحت لها عبر باب الإنترنت الذي هو قبلة للجميع اليوم دون مفتاح، يكاد الوالدان لا يعرفون أولادهم من شدة الانعزال وأغلب ما يتشاركونه صباح الخير ومساء الخير، لا غير وكل منغلق على نفسه في غرفته وكل يحارب مآسيه لوحده واضطراباته في معزل عن الأهل، أين التلاحم والتعايش الأسري الذي من المفروض أن يكون عليه بيوتنا وأين الحب والمودة والرحمة التي هي جدارنا وأين التواصل والمسؤولية والستر الذي هو غطاؤنا؟

أصبحنا نبحث عنها في المؤثرين -أتكلم عمن يستعمل هذه الكلمة دون معرفة حقة بوزنها وثقلها، لا على من يعمل بها ويجسدها بأسمى معانيها-، في الزقاق والشوارع والمقاهي، ونبحث أيضا في كتب التنمية البشرية التي تستهلك بإفراط دون معرفة تامة لأي زمان وأي مرحلة تستخدم فيها. والكثير ممن يشغلنا اليوم ويخرب علاقاتنا الأسرية فإما نعيش على ذكريات مضت أو على أشواق في القلب سكنت. نأمل تغير أحوالنا في غياب التواصل مع الذات والآخرين، فأنت لديك كل شيء وفقير جداً، وتملك كل شيء وتفتقر لأهم شيء وتبني مستقبلا من ماضي مهدم. يا رب أصلح حالنا وأفقنا من غفلتنا.

1xbet casino siteleri bahis siteleri