قد أفلح من زكاها

في خضم الحياة يُفترض من المرء أن يرتقي من طور إلى طور أفضل، وأن يسعى جاهدا لتحسين جوانب حياته بتقوى الله، ليبلغ مبلغ الانسجام بين النفس المطمئنة وبين الروح منبع الخير والجمال، إنه ذلك السلام الداخلي الذي يقتضي سنين طويلة من الجهد المضني والتدريب المستمر والتغيير الجذري لكل العادات السيئة التي لازمته أثناء الطفولة والمراهقة.

الحياة سعي نحو الكمال وإن كان الكمال لله سبحانه، فنحن نجاهد ما أمكن لنا الجهاد في تهذيب النفس الأمارة بالسوء وتربيتها على الأخلاق الحميدة وغرس فضائل الدين القويم في جذورها وبرمجتها على الاقتداء بالرسول الكريم واتباع ما جاء من القرآن من إرشادات وتنبيهات، فبإمكان المرء بعد هذا أن ينطلق منشرح الصدر مقبلاً على خوض غمار الحياة بعد أن تزوّد بخير زاد وأعظمه فلا يخشى على نفسه فإنه على الطريق الصحيح.

حينما يكتسب المرء بعضاً من خبرات وتجارب الحياة ويظن بنفسه قد نال علماً وفهماً من ضروبها وتقلباتها، يدرك أن درب التغيير لا يزال في أمد بعيد، وأنه كلما حاز علماً أدرك مدى جهله الفظيع، وكلما تقدم خطوة نحو الأمام يعود بخطوات إلى الوراء وكلما اقترب من الله بعمل صالح يبتعد عنه بذنوب كالجبال، فيعيش في تناقض بين أقواله وأعماله وصراع دائم بين هوى النفس وتقوى الروح، فتختلج في سريرته أفكاراً متضاربة وأسئلة محيّرة، ويعيش حيناً من الزمن في تشتت داخلي لا يعلمه إلا الله، فإليكم بعضاً من تلك الأسئلة التي تراود صاحبها ويبقى جوابها معلقاً في السماء إلى حين يشاء الله: كيف أقيّم نفسي؟ وأية مرحلة من التطور أراني وصلت؟ هل وجدت ضالتي وفككت الشفرة واكتشفت السر أم لا زلت في تعثر وغموض؟ فعلى ماذا أسست بنياني؟ على تقوى الله أم على شفا جرف هارٍ ينهار بي؟

مقالات مرتبطة

إنها تساؤلات كثيرة تراود كل من سلك نهج الارتقاء وآثر السماوية الواسعة على هذه الترابية الضيقة، وإليكم مثالا على هذا الصراع الداخلي من أحد المفكرين يقول: “أحياناً أكون كالملاك ملازماً للعبودية وأحياناً كالحيوان أحيا على الطعام والنوم، وأحياناً كالوحش أمزق كل ما حولي”.

ويجدر أن لا ننسى أن الإنسان مزيج من مادة ومن روح ولكل منهما احتياجات ينبغي أن تُلبى بدون غلو ولا تقصير، ليحيا التوازن الروحي والمادي في كينونته البشرية، حينها يرتقي إلى مرتبة الاطمئنان الذي بها تنقاد النفس طواعية إلى أمور الخير بدون عناء صاحبها وبدون صراعٍ داخلي وتشتت فكري، فذاك إذاً مقام النفس المطمئنة التي ارتقت إلى أعلى الدرجات بعد جهد جهيدٍ وعقبات شتى، وفي ذلك يقول القرآن {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}.

ومن زاوية أخرى نجد من يتبنى فكرة أن النفس البشرية لا يفلح فيها تهذيب ولا تدريب بل من جبلتها المفطورة عليها أن تنقاد لوساوِسها الخبيثة ولا يٓردعها في ذلك رادع من دين أو ضمير، وفي هذا شطط عن الحق وإغفال عن إمكانية تزكية النفس من شوائب محيطها الاجتماعي والثقافي، بإمكاننا أن نزداد نضجاً وحكمةً حينما تبلغ عناصر كينونتنا البشرية من نفس وروح وعقل درجة الانسجام والتفاعل المُحكم فيما بينها، فالحياة جهاد حتى الرمق الأخير منها.

1xbet casino siteleri bahis siteleri