قضيت بمصلحة سرطان الأطفال مدة شهرين تحسب كأنها أعوام لما رأيته بداخل الغرف هناك من حزن وآلام ومعاناة، كنت أستيقظ كل صباح متوجها إلى المصلحة، وقبل مغادرة المنزل، أحرص شديد الحرص على نزع وشاح مشاكلي وأحزاني حتى مشاغلي كيفما كانت نوعها، لأن فور وصولي إلى المصلحة كنت أحاول جاهدا أن أحافظ على تلك الابتسامة الخفيفة الظل التي تريح الناظرين کي أتمكن من ملاقاة الأطفال بها.
كنت عند وصولي أقوم بجولة خفيفة لأطمئن عليهم فأجد منهم من يغط في سبات عميق بعد أن قرر الألم أن يمنحه بعض الوقت ليستريح قبل أن يعود لزياته في وقت لاحق، ومنهم من استيقظ في الصباح الباكر ليلتحق بغرفة الألعاب المتواجدة بالمصلحة لعلها تخفف عنه وطأة المسكنات التي لا تنتهي، ومنهم من أجده جالسا على فراشه معتكزا يده لم يذق للنوم طعما طوال الليل، فأجدني أجلس بجانبهم أتأمل نظراتهم تلك التي تحكي ما لا يقال ولا يكتب نظرات فيها من الحزن ما يعجز الناضج عن وصفه، فما بالك بطفل أو طفلة لم يتجاوز سنهم الرابعة ربيعا.
أحاول إثارة انتباههم ببعض الحركات والضحكات البهلوانية لعلني أتمكن من إخراجهم من عتمة تلك الظلمة التي طالت صباحهم ولم تأبه المغادرة، في كثير من الأحيان، كنت أنال مرادي فيستجيبون لندائي ضاحكين فرحيين ولو لبرهة تنسيهم ما كان بهم، لكن في فترات أخرى كانوا يلقون السلام ويبتسمون، لكن في ابتسامتهم رسائل مشفرة إذا ما حاولت أن تقرأها ستفهم أنهم ليسوا في حالة تسمح لهم أن يضحكوا من الأعماق، وأن جرعات الكيماوي أبطلت وضوء شهقاتهم الطفولية، وأنهم ما عادوا يريدون شيئا آخر سوى جرعة من المورفين ليخمد نار تلك الآلام التي أنهكت أجسامهم ولم تعد لها قدرة على تحملها.
إليك يا صديقي أقول: إذا سولت لك نفسك يوما أن تشتكي مما تمر به من ظروف وضغوطات كيفما كانت، ناسيا كل تلك النعم التي تحيط بك، فعليك أن تقوم بجولة خفيفة لأقرب مستشفى لمرضى السرطان للكبار كما الأطفال، هناك ستجد حالات لا يغمض لها جفن من کثرة الآلام، وإذا سألت من هم في صراع مع المرض الذي أخذ منهم ما أخد ستكتشف أن كل أحلامهم وأمانيهم وطموحاتهم أصبحت تختزل فقط في رفع الألم عن أجسادهم التي أنهكها الكيماوي.
أما عن الشق الثاني والذي يخص الكلمة والاهتمام الذي من المفروض أن يكون من نصيبهم ومن طرف الجميع، فدعوني أخبركم في بضع كلمات عما يجري بين أسوار غرفهم. هناك حيث رأيت أثر الكلمة إيجابا وسلبا، تجري في العروق مجرى الدم، فتنهض بالمريض وتفعل به ما لا تفعله العقاقير وحدها، فترى إشراقة وجهه لمجرد كلمة ممن يحب أو ابتسامة وضحكة من مرافق له أو حتى همسة من طبيب تملأ قلبه إيمانا وأمانا، تضخ فيه كاسات اليقين وجرعات الأمل، ثم تتنزل عليه سكينة الله ورحمته فتحيطه بعنايتها، وترفع من همته فتسري الطمأنينة في جسده المنهك بسبب الكيماوي، والكلمة في أثرها تضاهي العلاج أثرا وأهمية، تسبقه في العروق وتستقر قبله في القلب طمأنينة وسكينة.
أما عن الشطر الثاني فقد هالني كيف للكآبة والإحباط والشعور المدمر بعدم اليقين والجدوى والدعم من المحيطين بالمريض من رفقة أو فريق طبي، أن يكون أثرها كارثيا ومهلكا حرفيا، فترى المريض يضحى بائسا كئيبا منهارا وقد خارت قواه، فتظلم (الظلام) الدنيا في عينيه ولا يرى فيها ما يستحق الحياة والعيش، فيزيد الوضع سوءا إلى سوئه، فتحيل كل الجهود المبذولة هباء لا جدوى منها طالما ماتت الروح يتبعها الجسد طائعا منقادا، وكم من كلمة قيلت أو فعل كان مقصودا أو غير مقصود أودى بنفس إلى غيوم الكآبة والإحباط حيث يصبح صاحبها جسدا بلا روح وخيالا بلا نبض.
ارفقوا بمن حولكم ممن يعانون في صمت، صمت يعلم خباياه هم ورب العالمين، وانثروا كلماتكم تلك المشجعة وابتسامتكم تلك المليئة بالحياة لعلها تبدل جرعات مورفينهم بجرعات من الأمل فيما هو قادم، وبين هذا وذاك حاولوا أن لا تنسوهم في دعائكم فوالله ما رأيت غيره يغير القدر.