ليست أساطير

925

إنه لحظ كبير، وشرف عظيم لكل متعلم نهل من العلم، أن يقرأ ولو جزءا يسيرا في السيرة العطرة لرجال جددوا في الحياة عنفوان شبابها. فما كان حديثا يفترى ذلك الذي روى به التاريخ أنباء ثلة من الرجال الصادقين من صحابة رسول الله وخلفائه الراشدين. فحين كانت الحياة تمضي لافحة حارة تماما كالمناخ الصحراوي لقريش جاء هؤلاء كأنسام الربيع وعليل الصيف، جاؤوا الحياة في يومهم الموعود.

فما الذي جعل سادة قوم قريش يسارعون إلى دين حفيد عبد المطلب متخلين عن كل مجد وجاه وعز ومال؟ ما الذي جعل المؤمنين به يزيدون ولا ينقصون؟ ما الذي جعلهم يصدقون بأن الجنة حق وبأن النار حق؟ كل هذا وغيره ليست بأساطير تروى إنما حقائق تسمو وترتفع لتبلغ أوج ثمار النبوغ الإنساني.

بعث الله رسوله محمدا على فترة بينة من الرسل، يخرجهم من غياهب الكفر والوثنية، إلى نور الإسلام. نزل الوحي وانطلق الموكب لكنه بدا ناقصا وكأنه ينتظر أحدا؛ إنه صفي محمد وصديقه وملازمه في هجرته، أبو بكر. ثاني اثنين وأول الخلفاء الراشدين، جبار شامخ ورقيق وديع، لم تغب عنه فضيلة ولم تعتريه رغبة في تولي الحكم أبدا، لكن أبراج كسرى وقصور قيصر تهاوت تحت قدميه. ولو فتشنا كتب التاريخ كلها لما وجدنا حاكما استهل موثق حكمه بهذه الكلمات: “…إني وليكم ولست بخيركم، إن أحسنت فأعينوني وان أسأت فقوموني.” عاش بمبدأ أن الحكم وظيفة ومات وهو لم يدخر لنفسه ولا لأهله دينارا قط بعدما بذل ثروته كلها في تحرير الرقاب.

ونحن نقرأ ونعيش لحظات في رحاب ابن الخطاب عمر، الذي وإن لم تشأ الأقدار أن نلتقي به يوما، غير أن تاريخه كاف ليشعرك بهيبته وعظمته وكأنك تجالسه. صارع الأشداء والأقوياء في سوق عكاظ، وصارع الجهل والباطل في شبه الجزيرة العربية. صاحب الفطرة السوية السليمة، لا يوافقه الرسول الرأي فحسب، بل يتنزل الوحي فيصبح قرآنا يتلى أناء الليل وأطراف النهار. إنه أمير المؤمنين الفاروق الذي فرق الله به بين الحق والباطل، وإن طال الحديث عنه فلن نوفي هذا العظيم صاحب الذكاء في التشريع والفطنة في التنفيذ حقه. ربط الحجر على بطنه من الجوع وهو الحاكم الذي بلغ الإسلام في عهده مبلغا عظيما، سأل الله الشهادة فرزقه الشهادة في المسجد. لله در ابن الخطاب أي حاكم كان؟ وأي عمر كان؟

جاء إسلامه على خطى وديعة رقيقة ببيعة صادقة لرسول الله، صهره الذي قال عنه لو أن لنا ثالثة لزوجناها إياك. عثمان العابد الأواب، ثالث الخلفاء. حمل أمانة الحكم وهو على مشارف السبعين من عمره بعد عشرية عمرية، فأساء ظنون جميع أعداء الإسلام بفتوحاته التي بلغت السودان جنوبا والهند والصين شرقا. يستحيل على القارئ في سيرته أن يمر عليها دون التوقف عند جمعه المسلمين على مصحف واحد لا يزال يسمى بمصحف عثمان إلى يومنا هذا.

تمضي الأيام والأحداث سريعة لنصل إلى فرع من فروع آل هاشم. الفتى الريان الذي كان أول من آمن وصدق بالرسالة المحمدية من الصبيان، مفدي الرسول صلى الله عليه وسلم حين تآمر عليه القريشيون يوما. اشرب قلبه القرآن والإيمان حتى ارتوى، فصيح اللسان تهتز الدنيا لخطبه، حكيم تنفجر الحكمة من عقله، كيف لا وهو سابق المسلمين وتلميذ الرسول الأول. لم تكن البطولة والرجولة عند الإمام علي اندفاعا يوما، بل كانت التزاما بالدين الذي يحمل رايته، نذكر هنا موقفه البطولي في صورة شرف أخلاقي منقطع النظير وهو يبارز أبو سعد بن أبي طلحة، حينما انحسر جلباب هذا الأخير وانكشفت عورته والإمام علي يتهيأ ليجهز عليه بسيفه المسلول فيثنيه إليه، يغض بصره ويعود مكانه. استشهد بضربة سيف محموم كتلك التي تلقاها من قبل الفاروق بخنجر مسموم.

لن تسعنا الأقلام ولا الصحف لإعطائهم حقهم الكامل ولا لذكر تفاصيل خلافتهم، بل هي شذرات من سيرتهم العطرة المليئة بالإيمان والثبات والحق والنصر…كل أمة سألت نبيها آية إلا أصحاب محمد؛ لأن محمدا هو المعجزة، بصدقه وأمانته وطهره…رأوا استقامته وعظمته فلم يعد للشك سبيل لقلبهم، ما جعلهم أصحاب الطريق الواحد حتى بعد وفاة رسولنا الكريم بل وحتى في أشد الأوقات فتنة، وكثيرة هي المشاهد والمواقف التي تجعلنا ونحن نقرأها أن نسجد لله شاكرين له أنعم هذا الدين، مجددين لهم الأشواق، فلتكن تحيتنا لهم سلام أجزيناه عند البدء خاشعين ونجزيه عند الختام خاشعين، جمعنا الله واياهم في مستقر رحمته.