زلزال في أعماقنا

بدون سابق إنذار أجدني ألتفت هنا وهناك بدون حراك، وحدها الأرض تحركني، لا أعلم ما أفعل هل أقف جامدة، أم أترك العنان لركبتاي تأخذاني حيث يجب، هاتفي بيدي وحقيبة يدوية بها بطاقتي الوطنية وبعض ما تبقى من مصروفي اليومي، وسط ذاك خوف والهلع وحركة الأرض.

كانت فوضى بداخلي وأسئلة كثيرة وجواب واحد أنها المرة الأخيرة لنا، ستُهدم المنازل من فوقنا وسنكون في عداد الموتى ومشاهد كثيرة شهدناها سابقا في أماكن أخرى ستتكرّر هنا، سنتصدّر عناوين الصحف وسنكون الخبر العاجل لأسابيع ربما، أحاسب سرّا نفسي على ما فعلت وعلى غفلتي عن أشياء كثيرة، لغو وأحاديث نساء مغلّفة بكثير من الخوف، وحركتهم لا تنقطع من الشارع وأغلبهم لا يعرف ما هو فاعل وأي وجهة يأخذ، أصواتهم أيقظتني من غفلتي لأركض كالبقية خارج جدراني الآمنة، خارج عالمي الخاص الذي كنت أحتمي به من وحشية العالم الخارجي.

جارنا الذي لم يكن يلقي حتى التحية علينا يقف ويسأل عن أحوالنا، والسيدة التي لا تتواصل مع نساء الحي تقف وتشكو حالها لهن وتصف الواقعة بالتفصيل الممّل وتتوقف ثواني تتذكر إن نست حدثا ما أو غفلت عنه، شباب الحي ومصدر ضجيجه والذين لا تنتهي الشكاوى من سوء تربيتهم يقفون بهدوء وبين الفينة والأخرى يتفقدون أحوالنا، هواتفنا لا تتوقف ومحاولاتنا المتكرّرة للاتصال بعائلاتنا لا تنتهي رغم انقطاع الشبكة في تلك اللحظة.

الخوف لم يجد غير ذواتنا ليستقر فيها والبرد لم يجد غير أجسادنا ليرقص رقصاته المعتادة، نفترش الأرض ونجتمع جميعا تحت السماء كأننا عائلة واحدة نخفف عن بعضنا ما حدث.

هي حركة واحدة لدقائق قليلة حرّكت كل شيء بداخلنا، نقلتنا من صفحتنا إلى صفحة أخرى نبدأ كتابتها من جديد، كأنه عمر كُتِب لنا وهو بالفعل عمر جديد؛ لعلّنا نُصلح فيه ما أفسدناه سنوات مرت. هناك تساوَت الأوضاع لا فرق بين غني وفقير ولا بين مهندس وعامل بناء وكأنها رسالة ربانية تقول إننا جميعنا بشر وضعفاء وأموالنا ومستوياتنا لن تشفع لأحدنا، سنعيش نفس القدر وسنتذوّق نفس الإحساس وأن الخالق سبحانه قادر على أن يخسف بنا الأرض في جزء من الثانية. كارثة طبيعية كهذه غير مُتوقعة ومُدمّرة جعلتنا جميعا تحت لحاف الخوف.

وفي الجانب الآخر وغير بعيد عنا؛ خسائر بشرية ومادية لا تُعد ولا تُحصى، انهارت المباني وفُقدت الأفراد والأُسر، إصابات خطيرة في صفوف الكثير من أبناء الشعب، مشهد مُرعِب يوجع القلب، ولا تُحتَمَل إعادته، بطله سيدة فقدت الزوج والأبناء، وزوج حاول جاهدا لإخراج أبنائه من تحت الحطام ولكن دون جدوى، وطفل في عمر الورود يفقد أغصان وجور شجرته العائلية ويبقى وحده الغصن المتدلِّي، بطله أرواح تنفّست تحت بقايا المنازل وبقدرة الخالق استطاعت النجاة.

هذا المشهد تربع على العرش، وكان عاجلا على معظم المحطات الإخبارية، ونحن من نشاهد من بعيد لم يكن يسعُنا إلاّ الدعاء لهم، وتقديم الشكر لله الذي منحنا حياة أخرى، فقبْل دقائق كان المشهد سيشملنا وسنكون من أبطاله ولكنها إرادته سبحانه وتعالى لعلّنا نراجع أنفسنا ونأخذ العبرة من الشريط الذي مرّ من أمامنا.

حركة بسيطة كانت بؤرتها في أنفسنا فأحدثت الخراب بداخلنا لنرمم أنفسنا من جديد ونصلح الاعوجاج الذي كان هناك. ولأن التضامن قيمة إنسانية وموروث عظيم يحتفظ به المغاربة منذ الأرض، فحركة الأرض أزالت الغبار من عليه وجعلته يقودهم نحو وجهة واحدة، في صف لا ينقطع كخليه نمل تنقل قوت يومها لمكان مبيتها. هكذا كان مشهد انتقال نصف الشعب لأعالي الجبال محمّلين بكل ما تحتاجه الساكنة هناك، لعلهم يخففون من هول ما حدث لهم ولعلهم يُلبُّون ولو القليل من احتياجاتهم، يمنحون بدون مُقابل ودون الْتفات للوراء.

هنا بالضبط فاقد الأشياء يمنحها والبسمة لا تُفارق مُحيّاه، وصاحب الحاجة يُعطي من القليل الذي يملكه، كأن الزلزال حرك عروقنا واختلطت الدماء فبات الشعب عائلة واحدة، ومعظم رجالها إخوة يتعاونون على البر والتقوى، هذا المشهد يُشعرك بكل أنواع الفخر والاعتزاز.

زلزال حركنا وحرك مشاعرنا وأظهر المعدن الخفي لجلّنا، فإلى جانب تلك الهزات الأرضية التي حوّلتنا من أماكننا وزرعت الخوف بداخلنا، هناك هزات أخرى في أعماقنا، حولتنا وأعادتنا لأماكننا الطبيعية حيث الخير سيد الموقف، وحيث الإيمان اليقين بقدرة الله وبضرورة استحضاره في كل خطوة نستعد لها وأن نستعد للقائه في أي لحظة، وأخيرا لعل هذه الهزة فيها خير لمن استطاعوا النجاة وتنبيه لهم، ومن فقد حياته فهو شهيد عند الله ينعم، فوحده الله سبحانه الأعلم بهذا. فرحم الله الضحايا وتقبلهم من الشهداء والصالحين، ورزق ذويهم الصبر والسلوان.

1xbet casino siteleri bahis siteleri