الوعي الفائق

2٬658

نحن البشر في لحظة حاسمة على هذا الوجود، لحظة تخبرنا أن هناك خياران فقط لا ثالث لهما، إما سنلقى مصيرنا في أقرب وقت ممكن على أيدينا وبعقولنا التي لم تعد تعمل لأجل إسعادنا وتحقيق السلم، السلام والأمان على هذا الوجود. فخياراتنا أصبحت لا ترحم يا رفيقي، كلنا في هذه اللحظة شاردي الدهن في السعي عن المزيد والمزيد من الإشباع المسعور لإشباع شيء لا ولم يوجد أصلا، أما الخيار الآخر فيحمل نوعا من الأمل والرجوع من حافة الهاوية عبر طرق عديدة ومن أبرزها التجارب الروحية العميقة.

من بين الوسائل التي نلجأ إليها عادة لإعادتنا إلى طبيعتنا البشرية هي التجارب الدينية المتنوعة، تلك التجارب التي حاولنا مرارا وتكرارا فهمها وتطبيقها سعيا وراء السكينة والسلام لنا ولغيرنا، إلا أننا لم ننجح في ذلك، والمشكل أن البعض منا غارقون في دوامة صعبة وهي أخذ التجارب الدينية من منطق فطري غريزي، عبر جمل وعبارات رنانة تجعلهم يتوهمون أنهم قد وصلوا إلى درجات عليا روحانيا. من الأمثلة الشائعة عن هذه الخطابات تلك التي نجدها عادة على مواقع التواصل الاجتماعي.

في الحقيقة، ذكرني هذا بالفيلسوف اليونانِي ديوجانس الكلبي الذي كان يحمل مصباحه ويمشي في دروب أثينا وفي شوارعها، فأثار انتباه الناس وكانت الدهشة على كل شفاه، حتى اقترب منه من اقترب ليعرف سر هذا التناقض الواضح، متسائلاً في حيرة السائلين: مصباح منير في قلب النهار؟

لتكون إجابته ديوجانس قاطعة تماما حيث قال: إنه خرج ليبحث عن الناس ويبحث عن الحقيقة، وكأنه يريد أن يلومهم على تخليهم عن إنسانيتهم، وأنهم مهملون في حق أدميتهم، وكأنه يقول لهم أين عقولكم وقلوبكم التي منحها الله لكم. بالنسبة لي نحن الذين فشلنا وليست التجارب الدينية، لأن التجارب الروحانية ناجعة فعلا وهي من السبل والطرق الفعالة لكل من استطاع معرفتها وضبط إيقاعها ليجعل منها منارة ينير بها طريقه في هذا الظلام الدامس الذي نحن فيه الآن.

فقد أصبحنا عالقين داخل هذا التردد المنخفض جدا، والقليل منا فقط من استطاع الخروج منها واستطاع أن يستنير، ويعرف ذلك السر المخفي وراء كل هذا الوجود. لعل خير مثال على هؤلاء هي شخصية مولانا جلال الدين الرومي، الذي وصل إلى مراتب عليا من التجربة الروحانية، مما جعل منه شخصية متميزة لدى الكثير من الناس حول العالم.

تتعدد أساليب وأنواع هذه التجليات من دين إلى آخر، فعلى سبيل المثال في الإسلام نذكر مثلا في الطريقة الصوفية “سما”، التي تعتبر نوعا من أنواع الذكر التي أوجدها جلال الدين الرومي؛ حيث يبدأ المتصوف بالدوران حول نفسه كإشارة إلى المبدأ الأساسي للوجود، وهو كل شيء في حركة ودوران، يرفع المتصوف إحدى يديه نحو السماء لاستقبال الحق والحقيقة، أما اليد الأخرى فيبسطها كإشارة منه إلى نشر هذا الحق والحقيقة على الأرض.

في لحظة من اللحظات يبلغ المتصوف مرحلة التسامي مع الشفافية الروحية، والوصول إلى حالة الاستنارة الكبرى أو ما يسمى بالاستسلام الكامل لقوة الحضرة الإلهية، محققا مقولة “مت قبل أن تموت” فأي تجلي نتحدث عنه؟

تحتاج هذه التجارب إلى مستويات عليا من الوعي أكثر من الوعي العادي السائد، وعي يصبح فيه كل شيء متوحدا وتختفي جميع الأضداد، ويصبح العقل والقلب صامتين معا، ويبقى فقط الوعي هو المستيقظ الوحيد حينها، ليبدأ الإبداع الحقيقي الصافي في كل من الأدب، الفنون والعلوم إلخ.

لعلنا بالوصول إلى حالة الوعي الصافي حيث لا يوجد مكان أبدا للأنا والإيغو ولا أهمية لهما عندها فقط بإمكاننا أن نبدأ بداية جديدة تتسم بالسلم والأمان مع خلوها من الكراهية، الحروب والأزمات التي نعيشها الآن على هذه الأرض. ليصبح العالم مكانا لصنع فن وإبداع حقيقي. www.casinoin.gr

وفي النهاية أود أن أختم بمقولة صوفية جميلة:

“وما أنا شيخ ولا أنا مريد ولا أنا زعيم أبدي أو أعيد ولست كل ذاك بل أنا خادم مطـيع.