لعنة الاستعجال

1٬235
تعتبر قرية “أوجيمي” بأوكيناوا في اليابان من المناطق التي تأهل بالمعمرين في العالم؛ فليس بالغريب في هذه القرية أن ترى تسعينيا يشارك أصدقاءه لعب الكرة أو أعمال الفلاحة والصيد، كما لن يكون من المستبعد التقاؤك بسيدة ثمانينية تسوق سيارتها بنشاط بُغية التسوق أو قضاء حوائجها. ما إن تذهب إلى ذلك المكان حتى تكتشف أن العمر ليس إلا رقما يحدد كم لبثت على هذه الأرض. دون الدخول في التفاصيل المطولة لسر هؤلاء المعمرين، نستطيع أن نقول بأن من أسباب صحتهم ونشاطهم الذي لا ينضب: راحتهم النفسية وطمأنينتهم، حيث يصرح أغلبهم بأنهم يتبنون مبدأ عيش حياة هادئة، فالعجلة والتلهف يَحُولَان دون رؤية الأشياء الجميلة والاستمتاع بكل لحظة.
من المستحيل تقريبا أن تجد أحدهم هناك يتناول طعاما في غير موسمه، فهم يستهلكون منتجاتهم المحلية كما توفرها الطبيعة لهم في الفصول الملائمة. ورغم أن قرية أوجيمي ليست معزولة عن العالم وتصلها مختلف السلع والمواد العالمية، إلا أنهم ملتزمون بتناول ما تنتجه أراضيهم في كل فصل، مدركين أن استعجال الثمار لن يعود بالخير على أي أحد.
إذا سلطنا الضوء على هذه النقطة التي يهتم بها هؤلاء المعمرين، فإننا سنرى مدى عمق حكمتهم وصحة اختياراتهم. فجسم الإنسان مكيف ومجهز بأنظمة دقيقة تساعده على التأقلم مع تغيراته الحياتية. ولأن الله خلق الكون والأرض بفصولها الأربعة، فإنه جهز الإنسان بميكانيزمات تساعده على البقاء في كل فصل، كما وسخر له الأطعمة التي تضمن له هذا البقاء. فيزيولوجية الإنسان تدرك تماما أهمية تعاقب الفصول، بل لنقل بأنه الإيقاع الطبيعي الذي تعرفه.. استعجال هذه الفصول أو إهمال دورتها لا يمكن أن يمر دون تأثير مختلف، حتى وإن بدا غير ملحوظ إلا أنه حاضر حتما. وكمثال بسيط على ذلك، ألاَ نشعر بالضيق والقنوط إذا ما فاجأتنا عاصفة ممطرة وباردة في أيام الصيف المشمسة؟ هذا ما نلحظه على المستوى النفسي فقط لما للأمر من علاقة بإدراكنا العاطفي، ودون شك فالمستوى الفيزيولوجي يتأثر دون أن ندرك ذلك. لذلك سواء قبلنا ذلك أم أنكرناه، فإن للمواسم تأثيرا على حياتنا الفيزيائية؛ إنها تؤثر على تفاصيلنا اليومية.
إن الأحداث والمحطات المتعاقبة في حياتنا تستجيب لقانون المواسم أيضا، فلكل شيء وقت محدد وفصل ينتظره؛ للنجاح الدراسي وقته، وللتفوق المهني موسمه، كما للزواج أوانه… وقس على ذلك كل اللحظات التي ننتظرها، حتى الفشل له موسم خاص به.. ولكل موسم غاية وهدف في حياتنا. هذه المواسم والفصول ليست عامة كفصول السنة، ولا تخضع لقانون الشمولية الزمانية والفعلية على كل البشر، بل لكل فرد فصوله الخاصة التي تناسب أحداث حياته. ولهذا نرى أن أرزاق الناس تختلف. لكن، ما الذي يعكسه الواقع؟ لماذا لا نرى سريان قانون الفصول في حياتنا؟ في الحقيقة، لا ندرك هذا الأمر وتأثيره علينا، بل لا نقف لنتدبر ونتمعن فيه، نركن إلى التحفيزات الضخمة التي تزين كل الأهداف التي نتبناها فنجد أنفسنا نركض لاهثين خلفها ومستعجلين تحققها، ضاربين آجال الرزق عرض الحائط.
ليس عيبا سعينا نحو تحقيق الأحلام والأمنيات، ولكن العيب في استعجال النتائج. لو أن الفلاح استعجل محصوله في فصل الربيع لما تمكنا من رؤية حقول الذهب المتلألئة تحت أشعة الشمس ولما تمكن هو من الحصول على قمح صلب يزيد من أرباحه. إنه عصر المقارنات والتباهي بالإنجازات. لا يمكن أن يمر يوم دون أن نرى فيه إنجازا مذهلا لشخص واحد على الأقل.. هذا الأمر بقدر ما هو مفيد ويحفز على المثابرة والعمل، بقدر ما هو ضار إذا ما وقعنا في فخ الاستعجال، وقتها سندخل حلقة مفرغة لا تنتهي: نطمح لشيء ما، نعمل عليه، نستعجل ثماره، لا نرى النتائج في الوقت الذي أردناه فندخل دوامة اليأس ثم نترك الأمر.. لننتهي مع هدف لم يتحقق.
نقل كاتبا كتاب “إيكيجاي” هيكتور جارسيا وفرانسيس ميرالز مقولة أحد المعمرين اليابانيين: “إن سر عمري الطويل هو أنني دائما ما أقول لنفسي: أبطئ واسترخ، ستعيش أطول بكثير إذا لم تكن في عجلة من أمرك.” الأهداف التي نضعها لأنفسنا ستتحقق لا محالة إن اجتهدنا وثابرنا عليها، يكفي ألا نسمح للكسل والتسويف بدخول نطاقها وسنرى النتائج في وقت قطافها. فبعد كل شيء، لكل أمنية وقت محدد لتتحقق فيه، فارتداء ملابس الشتاء في الصيف لن يسبب إلا الضيق والتعرق، وكذلك الاستعجال لن يناولنا أي شيء مما نرغب.
علينا أن نبطئ، ولا نتعجل، رغم ما تشير إليه الدراسات عن علاقة التوتر والضغط بالسرعة والاستعجال، إلا أننا سنكتفي بالقول بأن الكفاح وسط العقبات التي نجدها أثناء تحقيق أهدافنا، والوقت الطويل الذي نصبر فيه وننتظر نضجها هما ما يقوي عودنا لنصير كما الصخور التي صُقلت بعد تعرضها للأمواج. خلق الله كل شيء بقدر، ولكل رزق أجل لن يزيد الاستعجال أو ينقص منه شيئا، ومهما تأخر الحلم فهو سيتحقق في وقته المناسب تماما وإن جهلنا الحكمة من ذلك. ما يسعنا فعله هو التركيز على ما نستطيع إنجازه، والعمل عليه بهدوء وانتظار وقت تحققه الذي سيأتي دون أدنى شك.