معجزة الامتنان
هل بحثت يوما في نفسك ونظرت لتلك الأشياء البسيطة والصغيرة التي تدور حولك وتشكل جزءاً من راحتك دون أدنى عناء أو مجهود، تخدمك بلطف وتسهل عليك المصاعب؟ لعل ذلك الإيمان بدوام تلك الأشياء واستحالة فقدانها يجعل المرء في عمى تام عنها ما يجعله دائم السؤال والبحث عما يملكه الآخر والتسابق معه.
كلما زادت غفلة المرء عن تلك النعم التي تصنع يومه وتسهل عمله زاد شقاؤه؛ لكونه دائم البحث عما يجعله في اقتناع تام ورضا عما يملكه ويسعده فتجده يجري وراء ما تشتهيه نفسه ويقارنه بما يكسبه غيره، وليست بالضرورة هذه النعم مجردة ومادية، فنعمة الجسد السليم الخالي من الأسقام وكل عضو من أعضائه هو هبة جميلة، إن غاب واحد منها غابت معه الكثير من الأشياء، وكذلك الحال مع الكثير من الهدايا الربانية التي ننعم بها من أسرة متكاملة وعمل ودراسة وعقل باحث ومفكر وزوج لطيف وصديق صدوق، ثم سعي في خدمة الأمة فيما يرضيه تعالى ويبعث بالنفع على النفس والغير، كل هذه الأشياء نعم لا تقدر بثمن ولا تعوض ولو اختلفت أشكالها من أحد إلى آخر، فكل يملك ما هو مقدر له وما اجتهد في الحصول عليه والعمل على تطويره.
إن اهتمام المرء بنفسه وحرصه على تزكيتها يغنيه عن البحث عن رضا نفسه عند غيره، مما يخرب طمأنينته ويضيق عليه صدره حتى وإن تنعم ظاهره، من لباس وأكل ومسكن، فقلبه إذن لم يخلص إلى يقين تام بحاله وقناعة بما بين يديه، ما يجعله دائم القلق والحيرة، يستلذ بملذات تشبع رغباته وفارغة من تلك اللذة الحقيقة الممتعة التي تشكل جزءا من توازنه الداخلي.
ولعل أكثر الأمراض التي أصبحت منتشرة في الآونة الأخيرة يصب في اضطرابات نفسية وقلق مزمن وكآبة متتالية، فكان له أثر كبير على صحة الإنسان الجسدية، وخلصت الأغلبية إلى أن العلاج الأنسب لمثل هذه الأمراض هو إيمان الإنسان بنفسه وبقدراته ومحاولة التغلب على يأسه بتقديره للنعم المحيطة به والشعور بالامتنان لها.
هنا تظهر لنا أهمية الامتنان الذي يزيد من طاقة الإيمان التي تحقق التوازن الروحي الباطني، فمهما قلت حيلة المرء وضعف حاله ونفذ صبره عَدَّ ما يملكه من نعم ورتب عطايا الرحمن أمام عينيه، ليتذكر كل تلك الأشياء التي ساعدته وخدمته دون أن ينتبه إليها ويشكرها ويحمد المولى على وجودها، فنعمة الحمد من الأشياء التي تبعث السعادة في نفس الإنسان وتخلق لديه ذلك الرضا التام عما قُدِّر له، لأنه على يقين كبير بأن القدر له دور في حياته ولا يدرك ذلك سوى المؤمن؛ لأنه يرى العوض عن الفقد ويرى السعادة بعد الحزن ويرى نسيان الألم وجبر الكسر ولطف الرحمن به ورحمته بقلبه، فكلما قرب العبد من خالقه ومعطيه ومانعه فهم أساس عيشه وتعلم شكره، فبغير ذلك لا يغنى ويظل شاقيا متعطشا لملك كل شيء يسعد نفسه، مبتعدا عن عادة الامتنان الجميلة التي تغرقك في الثراء الكبير وهو القناعة.