من شرفة بيتنا المتواضع، دائما ما تثير انتباهي امرأة في الثمانينات من عمرها، وجهها محفور بمنعرجات الزمن مخطوط، شعرها يخالط الأبيض والأحمر، يكتسيها الهدوء وكأنها كيان بلا روح، صوتها مرتجف طامس في طياته إيحاءات وإيحاءات بيد أنه بتحية السلام مكتفيا أما عيناها فكانت حزينة بالية تغطيهما دوما ابتسامة ملائكية كي تغلق ويغلق معهما انعكاس جوهرها.
كانت جارتي العجوز تحتسي شايها وتتلمس بين أناملها صفحات كتاب “عن عمر الزهور” وكأنها تهمس في آذان كل شاب وشابة وتتحسر على شبابها الذي مضى على مرأى منها، آه على ربيعها الذي ذهب ولم ولن يعد؛ فقد اقتعلت آخر أوراقه وهي تتذوق مرارته مع كل رشفة تحتسيها إذ تجرعت واكتفت.
ظلت متمسكة وممتنة لدهرها مفتخرة أنها وبعد كل فاجعة أضحت حديثة الولادة من رحم معاناة وقسوة الحياة عليها حتى اجتمعت في جسمها النحيل علل الدنيا من أبسطها إلى أفتلها. ولكن لدغة الذات كانت أقسى فكلما كانت تفقد توازنها ويقع منها فنجانها لا أحد يكثرث لرجفة أناملها أو انهيار جبلها المطموس… أكنت أنا شديدة الملاحظة لأدق التفاصيل أم أن ما كنت أراه حينها كان فعلا رمادا أسودا يتطاير نتيجة انفجار بركاني؟
مشهد وجهها وملامحها وهي مقابل النافذة كان متمثلا وراسخا في أذهان جميع سكان الحي لكن لا أحد يدري ما الذي رمى بها وحيدة…فلقد كانت مطيلة النظر من الشباك كأنها تنتظر زائرها، تغفو وتصحو ولا أحد يأتي أحيانا قد تنام متكئة وهي بالنعاس مغلوبة.
حيثما تشتد قسوة البرد والشتاء، ينتابني فزع رهيب حولها ولا يطمئن فؤادي إلى أن تطرب أذناي ألحان معزوفتها المسائية “فات الميعاد” لكوكب الشرق فأستعيد راحتي وأركض نحو سريري وأنا كلي دعة وسكون.
طال فصل الشتاء وكثرت أمطاره حتى غدوت لا أميز بين صوته وأنغام جارتي إذ كان الثلج يتساقط وكأنه قرصة يوم عاصف تقضم الجلد، فتعالت شكوكي وحيرتي شيئا فشيئا. وفي يوم من الأيام، قررت زيارتها فلقد أضحت جزءا لا يتجزأ من يومي، تشجعت وقطعت الرصيف ما إن وصلت حتى صرت بالمياه مبتلة بيد أن حيرتي كانت أسمى فلم أشعر ببرودة الطقس ولا بجماد ملابسي على جسمي الدافئ، طرقت الباب وأنا أرتجف لا أدري إن كانت من هلعي أم من برس الزمهرير، انتظرت طويلا ومطولا لكنني كنت على يقين أن لزيارتي مرحبا ولأسئلتي إجابة، وفعلا تمت الاستجابة لطرقي، لكن ما أثار انتباهي هو تلك الأصابع التي التهبها البرد ناهيك عن تلك الروح المنهمكة والصوت المبحوح في حين أن ابتسامتها الملائكية غطت
كالعادة فتسللت وولجت قبل الاستضافة.
جلست على الأريكة وكأني أتقلب على نار تترقب ساقيها كي تنطفأ وتطلق رمادها، كان بريق حماسي ساطعا في مقلتاي، غير أن انعاكسي لم يكن ظاهرا في عيناها فلقد كانت باليأس مزخرفة لم أبد للموضوع اهتماما لأن همي حينها كان أعظم وكلماتي للسؤال كانت مهرولة. فما إن استهليت سؤالي حتى غطست في بحور دموعها ولامستني كلماتها حين قالت: “أستعصي البقاء وحيدة مع أفكاري، فهي كفيلة بإيذائي بل وبقتلي فأتمنى لو أنه بمقدوري أن أكشف عما هو أعمق من دموعي المذروفة وأتحرر من قيودي كي تتنفس أيادي المكبلة، فأنا يا ابنتي لن أقول أنني ضحية للزمن، بل سأكتفي وأقول شاءت الأقدار ووجدت نفسي عالقة بين أربع جدران؛ حاولت مليا أن أنسى ماضيي وأبني لكياني متنفسا جديدا.”
قطعت حديثها وصارت تدندن: “ودقة الساعات تصحي الليل وحرقة الأهات في عز الليل وقسوة التنهيد والوحدة والتسهيد لسه ما همش بعيد وعايزنا نرجع زي زمان قول للزمان ارجع يا زمان.”
أدركت حينها أن كان لها ميعادا مع كأس شايها؛ ففيه كانت ترمي حسرتها يوميا صباحا ومساء وتلقي بنفسها وسط معزوفتها. اقتربت منها وهمست في أذنها: “افرغي ضجيج أفكارك معي، أعدك أنني سأكون مستمعة جيدة قدر ما استطعت.”
ابتسمت وردت بنبرة حنين: “يا ليتك كنت حين كنت في عز ظمئي فأنا الآن أسدد ديون بكامتي وغلظتي مع ذاتي.” لا أدري ما الذي رمى بي فلم أقو على طرح سؤال آخر أو ريعان حديث فاتجهت نحو الباب وأحاسيسي مبعثرة، وضعت يدي على مقود الباب فنادتني وسارعت لمعانقتي ووشوشت لي: “هنيئا لقد لامست مقود حريتي.” لم أفقه كلماتها فودعتها وأتممت طريقي.
لقد كان حوارا مر عليه أزيد من عشر سنوات لكنني لا زلت أتذكر تفاصيله، وكلماته تمر أمام ناظري كأنها ترجمة لمشهد تلفزيوني. إن تساءلتم عن السيدة العجوز فلم يمر على لقائنا سوى بضعة أيام وكانت بالمولى ملتقية.
غادرت العجوز وهي في حرب شرسة بينها وبين كيانها، معارك جمة خاضتها وحطمتها أتمنى أن تكون قد لامست التسامح والغفران قبل أن وافتها المنية. هي السابقة ونحن اللاحقون فلطفا لا تبخلوا على أرواحكم بالبوح فهي يد حنونة فيها تقطن وتجد الأمان والسكينة لكن لا تكتسي بالسذاجة حتى تطعن.
وإن كانت كلماتك تذوب بين شفاهك فتتلعثم وتميل للصمت فلا تيأس، مثلي مثلك، دائما ما أتمنى أن أتوه عن دروب عودتي وأتأمل في أن يجدني شخص ما لكنني أجد كياتي مستلقيا حاملا ورقة وقلما وما إن تمتلئ أحداقي حتى أنغمس بين أحرفي فأتعرى ولا أستفيق حتى تنير ذاكرتي عتمة انطافئها فأعود مهرولة إلى منزلي المتواضع وأنا عائدة ألامس مقود حريتي المسجور بالصدأ وأستبدله بٱخر جديد.
فرفقا يا سادة بأنفسكم، إن كنتم في أوج عمر الزهور استمتعوا وتلذذوا بنزعة انعدام المسؤوليات والانشغالات، ولا تهدروا وقتكم في النبش والتنقيب وراء حقائق مظلمة فحتما عاجلا أم آجلا ستحين ساعتها وتجد نفسك كنت بالتحري مستبقا، وإن فاتكم الميعاد فإجابتكم عند كوكب الشرق ” تفيد بايه يا ندم” فالندم من صفات الشعر الأبيض بل كن ب ” قدر الله وما شاء فعل” فروحا وناطقا ولا تكن لذاتك محط عذاب، أما إذا كنت بالصمت مصرا فما أفاد العجوز شيئا فلما تحررت منه كان دفعة واحدة استنزفت فيه طاقتها كاملة. ثم إن لم تجد مأواك فما لك أحن وأرحم من مولاك يفقه كلماتك الملعثمة وآهاتك العميقة ثم يشفيك ويبرأ جرحك؛ ما لنا سواه عز وجل فاللهم الهدى، والتقى، والعفاف والغنى عن الناس.