أليف لغريب

عدت إلى بيتي واثبة الرأس وكان هموم الدنيا واقعة على عاتقي، وما إن أرفع رأسي حتى أجد كتفي قد مال من ثقل حقيبتي. حقيبة تحمل في مجملها موطنا أرتمي فيه من حروبي الدائمة، وفي طياتها تشع لهيبا من أسئلة تنتظر مطفئها، أما جوهرها فالرياح دائما ما تهب بصور باهتة ملامحها عكس اتجاهها حتى عابث الدهر تفاصيلها سدى.

يممت نحو الشباك وأنا كلي أمل في أن أتبعثر هناك، ابتركت على كرسي خشبه مخطوط بلوح الأماني، استجمعت بقاياي وأسرعت بقلمي كي أبوح بمشاعري الفياضة قبل أن يركلها العزوف وتتوه خطاها لتنتهي مقيدة أمام حاجز صمتها، بيد أن أناملي كانت سابقة وتناولت حروفي الصغيرة بضراوة فصار قلمي يحن إلى ثمانية وعشرين حرفا لا تطاوعه دهماء ركضت واعتزلت الحرب فغذوت راكعة في وجومي والفراغ صاخب على مدى النظر كأنه زئير بركان يثور.

وأنا في عز سلوتي، ترنمت آذاني بألحان غيتار أحيت فؤادي المهجور وأمطرت فسقت عطش صحرائي القاحلة. رمقت صاحبه ويا ليتني لم أفعل، ملكني هواه فوجدت كياني إلى لغة الصبابة متعطشا أطلت النظر فيه ومقلتاي بالغرام شاكية فلمحني ورد على بريقهما ابتسامة شفت جروحي وهكذا أضحى ميعادنا يوميا حتى تغلق أضواء الشوارع أحداقها ونستسلم لليل‏.

إنها السادسة مساء، موعدنا المعتاد، ها هو مليحي قد أشرف، استهل معزوفته ببشاشة انجلت بي من شهيدة لمحنة الألم إلى مهاجرة على سحابة تفول غسق الدجى. في تلك الساعة كان كياني مستلقيا وأشعة الغروب تزيل عن روحي تعب الطين وتقطر على جسمي وردا يفوح عطره وينسم الأرجاء، وأنا في هذي الساعة بوح أخرس فوق مساحات خرساء، ففي هذا العشق انتمائي ومأمني، فأنت نافذتي التي أطل بها على أفق تحررني من محبسي. آه على سحر عينيك! مصرة أنا أن أكون غريقة في بحرهما فهما نوري كلما عبس المساء، ولولاهما لما كنت أعلم أن أضواء الهوى بنية يتخللها بريق لامع، آه منك يا محيي الوداعة والجمال.

مقالات مرتبطة

مرت الأيام والشهور والمشهد عينه يتكرر، كلي توق إلى ملتقانا كي أسافر إلى عالمنا الوردي وأتوه سكرا أمام غزو سهام عينيك، فلذتهما لا تشبع منها فما أدير وجهي حتى تنال مني وهكذا دواليك، إلى أن تأخرت عن موعدنا فظننت أن التعب أو السقم قد أبطأك فصرت أعاتبهما بيد أن الأيام توارت والغياب طال.

بقيت أحدق لوحدي وقضبان شباكي بالزمهرير قاسية، تركتني فوق تراب البستان الدافئ، يا لك من خنذيذ، وها أنا ذا أوقظ حروفي كي تناديك، لعلك تكون صاغيا ففي تلك الساعة من ساعات الليل يغرث آنائي والكلمات ينلن الإفراز. نامت الشمس فمن يعيد لي حمرة الشفق؟ أكان فعلا آخر لقاء لنا لذلك أطلت النظر؟ حسبتها مستهل روايتنا في حين أنها كانت الحصيلة.

يا من لا أعرف اسمه، آنستك واستأثر عزفك الجماح من فكري ومسمعي، سجية أضحيت لمعزوفتك لي في قلبي منك لوعة، عد بنور وصلك فوصالي في الصباح وهجري في الليل. تململ الدمع في عيني وأنا أخط خشية من أن يدنو الصباح ولا أتنعم بوجهك فأرتدي الليل وأصابعه تزرع في أشلاء من الفزع والهم.

وها أنا أعود إلى بابي من جديد وأسئلتي تظافرت، بل وحفرت على كل سؤال سؤال، وغيابك قطع خيوط الأجوبة وعقد مشابكها، لا أعلم إن كان ألفي لك سوى حلم غريب يا غريب، حلم بلون الفرح، ركض خلف وهم مستحيل ولكنني على يقين تام بأني لا أزال في معبد ملامحك، أشدو في حين أن شحوبي آلت بالغروب. وها هي قد امتلأت حقيبتي من جديد بيد أنها بألحان وأنغام هاته الكرة وتطغاها مقطوعتين الأولى أخاطب فيها أوهامي الوردية بمعزوفة الأيقونة ماجدة الرومي: “يبني لي قصـراً من وهـمٍ لا أسكنُ فيهِ سوى لحظات وأعودُ.. أعودُ لطـاولـتي لا شيء معي إلا كلمات.” والثانية أتغزل بهيامك بمعزوفة كوب الشرق: “وقابلتك انت لقيتك بتغير كل حياتي ما أعرفش إزاي حبيتك ما أعرفش إزاي يا حياتي…من همسة حب لقيتني بحب وأدوب في الحب وصبح وليل علي بابو…”

حكايتي والغريب انتهت هنا، لا زلت لم أخط لها نهاية أكيدة، فرياحه ترطمني من حنين إلى قلق وبصيص أمل لقائه ما زال قائما على أمل لقياه غدا، أجل يا سادة مثلي مثلكم أحيانا أستهزئ من ذاتي وأحيانا أخرى أشفق عليها، ادعولي لعل دعاءكم يكون في ساعة استجابة، فقد أغلقت فؤادي على من سواه ليس عنادا ولا قناعة وإنما كان أهلا لذاك.