الفهم عن الله

تنزل بالإنسان أحيانا كثير من مصاعب الحياة وتطرق بابه محن وراء أخرى ويقرع رأسه بمقارع الابتلاء، فتجد كلا يواجه حسب طاقته؛ فمنهم من يجالد ويصارع، ومنهم من يركن ويصبر ومنهم من لا يقدر على أي من ذلك فتجده جزعا متسخطا يندب حاله، قال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 19-20].
إن من حوى في صدره إيمانا راسخا بالله وعلم غاية وجوده في الدنيا، وعلم مبتدأه ومنتهاه، فلن يكون منه يقينا إلا أن تجده يصهر بنار الابتلاء ويطرق بمطارق الحديد، فمن خبر حاله أشفق عليه، لكنه وسط كل هذا يعلم أنه يهيأ لأن يكون سيفا بتارا يقطع كل من جابهه ويقسم كل من واجهه؛ فالمحن والابتلاءات هي عبارة عن حكم نورانية ومدارس ربانية من الحق تعالى لكل عبد رزق الفهم عن الله، قال تعالى: {أحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 2-3]، فهذه الفتن مدرسة يربى فيها العبد كل حسب تبصره وفهمه فمن رزق الفهم عن الله استنبط المنح الربانية المكنونة داخل هذه الابتلاءات، وفك رموز هذه الشفرة الربانية وعلم مراد الخالق منه من خلال ما هو فيه من صواعق وعواصف، فاستنبط من نورها ما يبني به ذاته وينفع به نفسه ومجتمعه فينسيه ما كان منها له من لسعات تؤلمه وضربات توجعه.
لهذا، على كل عبد أن يتدبر في حاله وما يتنزل به من نعم ونقم، وما يجري حوله من أحداث فيعرف موقعه منها، ويحاول أن يفقه مراد الله منه من خلالها، حتى يستطيع من خلال ذلك أن يستخلف الله في الأرض كما يجب، وحتى يسير وفق ما هو مسطر من نظم، فلا يزيغ عن الطريق ولا يتيه عن المسار فيظل سائرا مع سائرين إلى الله. بهذا الفهم الصحيح الذي سطرته لنا معالم ديننا الحنيف، لا تجد مسلما يخضع للأهواء، ولا ينكسر للأهوال وإن حتم عليه دك الجبال لدكها، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «عجبا لأمر المؤمن، إِن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء، صبر فكان خيرا له» لأنه بهذا الفهم قد اكتسب طاقة ربانية لن يستطيع أن يخضعها ولا أن يروضها مخلوق مهما بلغت قوته. فهي خاضعة لجلال ربها وعظمته، ومصقولة بأنهار الرحمة التي تتنزل على العبد في كل وقت وحين، وإن كانت تتخللها عواصف فلا يمنع هذا من أن يستخلص العبد من تلك العواصف ما أودع فيها من حكم وعبر؛ لأنه اكتسب الفهم الصحيح للمنهج الرباني القويم فمن ذا الذي يقدر على إخضاع عبد هذا هو جوهره ومكنونه؟ عبد أصبح يرى بعين بصيرته قبل عين بصره، يتحسس ما وراء المشاهد والملموس ليصل لدقائق الأمور وجزئياتها.
1xbet casino siteleri bahis siteleri